لقد تحدثنا في مقالة سابقة عن المعايير التي اتبعتها الكنيسة في اختيار الكتب “القانونية”، والأناجيل الأربعة – متى، مرقس، لوقا ويوحنا – تطابق هذه المعايير بالكامل. فهي قديمة، تعود إلى العصر الرسولي، لا بل هي رسولية (كتابها رسل أو أتباع الرسل المقربين)، هي ذات إيمان قويم، لا يناقض تقليد الكنيسة الأولى الحي، وثالثًا، حظت دومًا بقبول شامل من مختلف الكنائس.
هذه الأناجيل تشكل المصدر الحقيقي والأهم بشأن يسوع التاريخ. ولكن يجب أن ندرك بعض الأمور: الأناجيل ليست سيرًا كاملة عن يسوع المسيح، وهي ليست حتى ملخصات تأريخية عن أقوال وأفعال يسوع المسيح. (سنتحدث في المقالة المقبلة عن النوع الأدبي الفريد الذي تنتمي إليه نصوص الأناجيل).
هذا وإن البعض يقولون أنه لا يجب أخذ هذه الوثائق بعين الاعتبار وذلك – بنظرهم – لأنها صادرة عن أتباع يسوع. بالطبع، هذه الحجة سخيفة. فمن بالواقع يعرف شخصًا ما أفضل ممّن عايشه وتبعه وشارك حياته ليل نهار؟ الانتماء إلى دائرة أتباع يسوع، ليس نقصًا بل بعدًا إيجابيًا يضاف إلى مصداقية الأناجيل الأربعة. خاصة وأن ما تقوله الأناجيل، لا يصب البتة في مصلحة أتباع يسوع، بل يبين كيف أنهم لم يكونوا على مستوى تعليم المعلم، بل غالبًا ما خيبوا ظنه.
إلى جانب هذا المعيار، تخرج الأناجيل ظافرة من معايير المؤرخين الضيقة والتي تبرهن على وزنها وقيمتها التاريخية. لمن يشاء التعمق بهذا الشأن نلفت إلى دراسات الباحث جون ب. ماير التي جمعها في 4 مجلدات قيمة جدًا بعنوان “يهودي هامشي” (A Marginal Jew). يعدد ماير 10 معايير لتقييم تاريخية الأناجيل. نقدم أربعة منها.
– معيارالإحراج: ماذا يعني هذا المعيار؟ يعني أنه عندما ينقل لنا كاتبًا أخبارًا أو أقوالاً قد تسبب له الإحراج وتدفعه ضرورةً إلى شرح فوق الشرح، فمن الأرجح تأريخيًا أن يكون ما يقوله صادقًا. فالإنسان عادة يميل إلى نقل ما يفيد قضيته وما يسلط عليها ضوء لا ظل فيها. إذا ما نظرنا إلى الأناجيل، نرى أنهم ينقلون أخبارًا وأحداثًا تتطلب معها شروحات إضافية، كان بإمكان الرسل، لو لم يشاؤوا أن يكونوا صادقين، تحاشي ذكرها. بعض الأمثلة: الحديث عن معمودية يسوع على يد يوحنا المعمدان. مقولة يسوع عن جهله للساعة (مت 24، 36)، إلخ…
– معيار الشهادات المختلفة: أي عندما يتم نقل الخبر عينه من قِبل مصادر عديدة ومختلفة.
– معيار عدم الاستمرارية أو الاختلاف المزدوج: أي ما يتم نقله من تعاليم ليسوع المسيح التي تختلف جذريًا عن المحيط اليهودي (الأمر الذي ولد خلافات مع المحيط الذي كان يتم فيه التبشير) والتي تختلف أيضًا في بعض الأحيان مع ممارسات الكنيسة اللاحقة. هذا المعيار أيضًا يعبر عن مصداقية كتاب الأناجيل لأنهم، لم ينقلوا ما يناسب، بل الوقائع حتى التي لم تجد الكنيسة نفسها قادرة على تطبيقها بحذافيرها.
– معيار الاستمرارية: هذا المعيار لا يناقض السابق بل يكمله. فيسوع لم يكن كائنًا فضائيًا غريبًا عن بيئته. كان يهوديًا عاش في بيت يهودي وتربى على يد أم يهودية. وكان من الطبيعي أن يكون هناك تأثير من بيئته على لغته، فكره، طبعه إلخ.