قيل إن ساحة الأمراء اللمعيين أو ساحة المتين الأثرية، من أكبر ساحات لبنان. تسبقها ساحة قصر بيت الدين، وتتساوى في المساحة مع ساحة راشيا. لا عجب في ذلك، فالساحات الكبرى معقود لواؤها للعائلات الكبرى التي تحكمت بمفاصل جبل لبنان قبل مجازر الستّين في منتصف القرن التاسع عشر، على ما جاء في كتاب “مسارات في تاريخ المتين 1832 – 1918” لشربل نجار. انها ساحات استثنائية ملكتها عائلات استثنائية تساوت في مرتبة الإمارة الإقطاعية العليا السائدة آنذاك، التي تمتع بسلطانها وتجبُّرها وغِيّها وخيرها وعانى من تبعاتها ومآسيها آل شهاب وأبي اللمع وإرسلان.
ساحة المتين الأثرية تقوم اليوم على نحو خمسة آلاف متر مربع، تحيط بها من الجهات الأربع قصور لمعية ابتدأ عمارها في القرن السابع عشر (لم تُبن القصور اللمعية دفعة واحدة بل جاء بناؤها على مراحل غرفة إثر غرفة وطابقا تلو طابق بحسب الحاجة. لما صارت القصور في منتصف القرن التاسع عشر على ما هي عليه الآن كان قد أزفّ أوان بيعها لضيق مادي اصاب آل بو اللمع) وانتهى ببيعها في بدايات القرن العشرين لناس من المتين اجتازوا بحاراً وعادوا بثروات أو جاءت اليهم الثروات من دون أن يجتازوا البحار! عرفت الساحة عزاً وفاقة. وقد تمثل العز أيام الإمارة بإقامة مباريات في وسطها مثل لعبة “الجريد” (مباراة بالرماح على ظهور الخيل) وشتى انواع مبارزات الخيل والليل تحت انظار أميرات جالسات في الكِشْفِ العالي المطل، يمايزن بين فارس وفارس وحبيب ومشتاق ومن خلف شباك الكشف يخترن من يقع عليه الإختيار… لأنس العشايا ومباهج السهرات وآهات الليالي الملاح! للأميرات مسبح خاص يرْتَدنه سافرات شبه عاريات يحاكي بياض اجسامهن لؤلؤ مياه الصيف الدافق من أعالي جرد بيت القنطار (كان آل القنطار يملكون الماء في جرد المتين قبل وصول اللمعيين اليها. ولحاجة هؤلاء إلى المياه اخذوا املاك آل القنطار في المروج عنوةً بعدما ضربوا اعناق عدد من مشايخهم وفرسانهم بحد السيف).
أميرات المكان وأمراؤه هم آل بو اللمع لا يزورهم على قدر مقامهم إلا بيت شهاب. اما باقي الزوار فمن فلاحيهم وحرفيّيهم وكتبتهم وكواخيهم. بعد عام 1835 صار زوارهم كهنتهم، إذ تنصر اللمعيون المتينيون في تلك السنة على مذبح الكنيسة المجاورة للميدان فانتقلوا من حال الى حال أو من دروز الى نصارى. لم يكن ذلك الإنتقال بدفع ايماني بل بدافع الخشية على المصير. لقد تحول الموارنة على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الى قوة ديموغرافية واقتصادية، تالياً الى قوة سياسية محلية بلا منازع، فاهتم اولئك الأعيان الأمراء بالكثير الآتي غير عابئين يومذاك بالقليل المتبقي.
في القرن العشرين صارت ساحة المتين أو السهلة أو الميدان طريقا للمارة وللدواب وملعبا للأطفال وقامت في اقسام منها مساكب اللوبياء والبندورة والخيار يزرعها ويعتني بها سكان القصور الجدد. في اواسط القرن العشرين تحولت الساحة الى ملعب لكرة القدم تتبارى فيه فرق المنطقة المتنية بشقيها الشمالي والجنوبي. في ذلك الوقت وخلال ايام الأسبوع كانت الساحة تعج بالحرفيين وصغار الباعة وكبارهم كما كانت محطة للمكاريين على قلتهم وقد انتقل قسم منهم الى مهنة قيادة “الكارّو”، قبل ان تتعرّب كلمة chauffeur فيصبح اسم الفاعل شوفيرا والفعل شَوْفَرَ واسم الفعل شوفرة على وزن “فوعلة”!
نُكبت المتين ابتداء من آذار 1976 بحرب لا هدف لها إلا ما نحن فيه، فانهار جزء من جدران القصور الحصينة بفعل قصف مدفعي سوري من هنا، وقصف طيران اسرائيلي من هناك. اما الساحة فخربت وحل عليها شبح موت استمر زهاء عقدين من الزمن وأكثر.
في بداية القرن الحادي والعشرين وصلت الى المجلس البلدي في المتين مساعدات عبر USAID لإنشاء بنى تحتية للساحة الأثرية هذه، التابعة في ادارتها لبلدية المتين ومشيخا، واشرف المجلس البلدي برئاسة السيد زهير بو نادر على التنفيذ فأصاب، وافتتحت الساحة بهرج ومرج وسيف وترس وضيافات وخطابات أدت الى اعادة انتخاب مجلس بلدي جديد في العام 2010 برئاسة السيد زهير بو نادر نفسه. في العام نفسه رُمّم قصر بلدي منيف على طرف الساحة بهمة السيد روجيه صروف وتمويله، وهو أحد المتينيين الأبرار وقد صدح خلال الافتتاح صوت السيدة ماجدة الرومي على مسمع ومرأى من اربعة آلاف شخص. دعي آنذاك الى ذلك الإحتفال جميع المتينيين حبا بهم، ومقامات لبنانية واجنبية فخرا واعتزازا بالذي يجري.
بعد ذلك بقليل حلّت الفاقة.
ساحة ميتة يحركها حسب المواسم نشاط محلي بعضه حصري وبعضه الآخر عام. فالساحة في الخريف مكان لجمع الحطب وفي الشتاء مستوعب لتفريغ أحجار تعدّ للعمار المخالف حتما في هذا أو ذاك من القصور البائسة في معظمها. اما صيفا فتتحول الساحة بين الحين والحين الى مسرح كبير للمهرجانات الفنية المحلية وتبقى في باقي الأيام مرأبا مترامي الأطراف “تزينه”، فضلا عن السيارات العادية، الصهاريج الكبرى وخلاّطات الباطون وكميونات محمّلة صهاريج بلاستيكية فارغة وباصات الجمعيات والمدارس والركاب وسواها من سيارات اعضاء المجلس البلدي والأجراء وطالبي الخدمات.
نطرح الصوت على جميع المعنيين؛ على المجلس البلدي في المتين الذي يترأسه السيد زهير بو نادر للمرة الثالثة، وعلى وزارة الثقافة وقد جاء وزيرها روني عريجي وجال في ارجاء القصر البلدي المنيف وزار متحف المتين للفنون في نهاية صيف 2015 فأعجب بما شاهد ودوّن تقديرا. وهو حض المجلس البلدي القديم على إعداد ملف كامل عن احتياجات المتين الثقافية والتقدم به الى الوزارة التي يمكن ان تجيّر للمتين منحا مالية من مصادر دولية تأتي اليها فتوزع على القرى التي كونت ملفها وحددت حاجاتها.
نطرح الصوت أيضاً على الجمعيات والمؤسسات المتينية والوطنية التى تعنى بالإنماء الثقافي وعلى القطاع الخاص بالذات الذي له مشاركة فاعلة في هذا المجال. ونطرح الصوت على أهلنا في المتين بعيدا عن اي حرتقات فئوية او عائلية او سياسية، داعين إياهم للإلتفاف حول المجلس البلدي والعمل على تكوين مشروع بالمعنى العريض للكلمة، لإنماء الثقافة وحماية الآثار القديمة والأقل قدما في قلب المتين، ابتداء من ساحتها وانتهاء بجُرْدها.
الإنماء الثقافي لا يمكن أن يقتصر على جوانب منه فتهمل جوانب أخرى، إلا ان مشروع حماية الآثار وانماء محيطها هو أولوية لبلدةٍ، ثرواتها التراثية كثيرة وكبيرة. اما إدراك تلك الثروة فقليل قليل.
النهار