“فرح الإنجيل يملأ قلب وحياة الذين يلتقون يسوع” بهذه الكلمات افتتح البابا فرنسيس الإرشاد الرسولي – فرح الإنجيل، أول وثيقة تصدر في حبريته، تميزت هذه الوثيقة بأهميتها البالغة وتأثيرها الكبير على حياه الكنيسة والمؤمنين لأجيال قادمة، حيث قدم البابا من خلالها طريقاً جديداً للتجدد جوهره الفرح وروحه الحماسة.
ضمن هذه الوثيقة تطرق البابا فرنسيس بشكل مكثّف لأهمية العظة في العمل الرعوي والرسولي باعتبارها فرصة أسبوعية يمكن لمعظم الكهنة الاستفادة منها بتشجيع الرعية لعيش الإيمان الحقيقي وفرح اللقاء مع كلمة الله ينبوع التجدد والنمو الروحي. ونجد في هذه الوثيقة دعوة لتجديد الثقة في الواعظ مبنية على قناعة بأن الله يسعى للوصول إلى الآخرين من خلاله ببساطة كلماته وعمقها كما كلمات الرب التي اكتسب بها قلوب الناس وهو بذلك يريد منا أن ندرك قلب الأخر ببساطة وعمق كلامنا. (135)
وبشكل موجز، العظة هي خبرة رائعة في حياة الراعي والمؤمنين، هي جهود إبداعية وموهبة بالأداء والعطاء والتقديم، قد يظن البعض أنه يمكنهم أن يكونوا وعاظاً جيدين فقط لمعرفتهم ما عليهم أن يقولوا، لكنهم وللأسف لا يدركون أهمية طريقة القول وروح القول. العظة محك رئيس يحكم مدى قرب الراعي من رعيته والقدرة على استمرارية لقائهم. في الواقع، من المعروف أن المؤمنين يولونها أهمية كبرى، وهؤلاء، كما الكهنة أنفسهم، غالباً ما يعانون من السماع كما يعاني الكهنة من الوعظ، مؤسف حقاً أن يكون الأمر كذلك، فالعظة يمكن أن تكون اختباراً قوياً وسعيداً لخلاص النفس وتجدد الروح الايمانيه كيف لا وهي لقاءٌ حي مع كلمة الله، وينبوعٌ دائمٌ للتجدد والنمو، فالحديث من القلب لا يلهب القلوب فقط بل ينيرها بكلمة الله في قلب الكنيسة. (135)
من هنا وضع قداسته نقاطاً للتفكير والعمل بها، وهو الذي يتمتع بموهبة مذهلة في الوعظ حيث يمثل أنموذجاً يمكننا جميعاً أن نتعلم منه الشيء الكثير:
1- الاقتضاب في العظة: على الواعظ أن يدرك أنه مهما كان جذاباً ومبدعاً في الخطابة فإن العظة ليست درساً أو خطاباً ذاتياً على العكس من ذلك، هي كلام من قلب الله إلى نفوس متعطشة لسماع الكلمة ضمن سياق ليتورجي وروحي، قد يكون الواعظ قادر على أن يستقطب اهتمام الناس على مدى ساعة، لكن حينئذٍ يصبح كلامه أهم من الاحتفال الإيماني، دعونا أن لا ننسى انه مجد الرب وليس مجد أنفسنا ما ينبغي أن يظهر وهذا يتطلب ألا يحتل كلام الواعظ مكاناً مفرطاً، بحيث يتسنى أن يلمع الرب أكثر من الخادم. (138)
2- العظة ليست شكلاً من أشكال الترفيه: هي ليست كلاماً عن الإيمان وإنما هي كلام الإيمان، هي مشاركة وقيادة للمؤمنين نحو الشركة مع المسيح في الأفخارستيا بتمركزها حول المسيح وليس حول الذات. لا ضير من استخدام الصور التشبيهية فيها وروح الفكاهة والأمثلة والخبرات لتوضيح وتبسيط كلمة الله وتيسير وصولها لقلب المؤمن بعمق وفرح.
3- جسر للحوار من قلب إلى قلب: يعمق الواعظ حواراً بين الله وشعبه، بحيث يكون الهدف من العظة هو وصول قلب الله إلى قلب الإنسان وليس تعليماً عقائدياً أو أخلاقياً، إنها ليست مكاناً لإيصال المعلومات وإنما الشراكة والحياة الإيمانية، إنها خبرة حياتية للإتحاد مع قلب الله واختراق محبته ورأفته، فالحوار هنا لا يقتصر على فكرة إيصال حقيقة معينة إنما هو وسيلة للتعبير عن المحبة. (142)
4- نقل البُشرى الإنجيلية: من التحديات التي قد تهدد العظة تشتيت الأفكار وبعثرتها دون الوصول إلى المركز والجوهر أي محبة الله من خلال شخص المسيح، لقد عُهدت إلى الواعظ المهمة الجميلة والصعبة جداً بأن يجمع القلوب المتحابة: قلب الرب وقلوب شعبه، والحوار بين الله وشعبه يزيد في تقوية العهد القائم بينهما ويشدّ أواصر رباط المحبة.في أثناء العظة، تسكت قلوب المؤمنين وتدعُه هو يكلمهم. (143)
5- التحضير العميق والجدي: الواعظ ليس أمام أي كتاب وإنما هو أمام كلمة الله المتجسدة والحية، هنا لا بدّ من التواضع أمام الوقوف والتأمل بالكلمة واللجوء إلى الروح القدس لطلب النعمه، فتواضع القلب هو الإدراك بأن الكلمة تسمو دائماً، عبر الصبر والتخلي عن كل انشغال، وتكريس الوقت والاهتمام والتفاني المجاني. وهنا، المطلوب، أن نحب الله الذي أراد أن يكلمنا، وأن نتواضع دائماً أمام عظمة الله التي تتكلم من خلالنا، فتهيئة العظة حُباً هي من أولى الأولويات. (146)
6- التحدي الذاتي أمام كلمة الله: يبدأ التحضير الفعّال للواعظ بلقائه الشخصي مع الله من خلال التأمل بالكتاب المقدس. من أراد أن يعظ، عليه أولاً أن يستعد بتخلي ويعطي كلمة الله كل المجال والزمان والمكان فيدعها تؤثر فيه وتتجسد في حياته اليومية، فتصبح اختبارا حياتيا لمزيد من النمو الروحي بدلا من أن تكون واجبا، وأن يتقبل أن تجرحه تلك الكلمة أولاً قبل أن تجرح الآخرين، لأنها كلمة حيّة وفعّالة وكسيف ذي حدين. (150)
7- الاستماع إلى الشعب:على الراعي أن يعرف رعيته قبل مخاطبتهم؟ فلا ينحصر تفكيره في كلمات العظة فقط بل بالأولى في حاجة الشعب وفي اهتمامات حياتهم الخاصة واحتياجاتهم ورغباتهم، وبذلك يفترض بأن تكون العظة تحكي واقعهم وليست مجرد تنظير، حياتية وليست مجردة تحتكم إلى بعض الخبرات الإنسانية المألوفة التي تلامس اهتمامات الشعب ومشاعرهم ومخاوفهم كي تفيد حياتهم، والمقصود هنا هو ربط رسالة النص الإنجيلي، بوضع إنساني، يعيشونه، باختبارٍ يحتاج إلى نور الكلمة. (154-155)
نجد أن البابا فرانسيس قدّم مفهوم جديد للعظة ودعوة للتجديد والتحسين من خلال العديد من النصائح الجوهرية التي يمكن للواعظ الإفادة منها بشكل كبير والسير عليها، ولكن يبقى الأهم أنه قدم نفسه كمثال يومي يُحتذي به، فهو يذكرنا بأن وجود المسيح في حياتنا يجعلها مختلفة يجعلها ثرية فيصبح لكل شيء في حياتنا معنى مختلف، ويبقى جوهر العظة عبر إعلان كلمة الله بفرح ومحبة.
الأب عماد طوال / زينيت