قال الكاردينال هنري نيومان ” المسيحيّ هو الشخص الذي يراقب المسيح “. هذه المراقبة ، ليست كهذا الذي يقفُ أمامَ محطّة يراقب متى يأتي القطار ، ثمّ يصعد ويذهب وينتهي الأمر ! . إنه ليس إنتظارًا مؤقّتا ويزول ، بل هو انتظارٌ دائم ، مستمرّ ، ديناميكيّ . كلّ يوم وكلّ لحظة انتظر المسيح آتيا أمامي . إنّ الكلمة اللاتينيّة الخاصّة بالفعل ” ينتظر ” هي Attendere التي تعني أنْ يستلقي المرءُ نحو الأمام . إنّ مجيء الربّ لا يكونُ على شكل فارس يمتطي فرسًا قادم لنجدتنا !! .. يأتي الله من عمق أعماق داخلنا ، كما يقولُ القديس توما الأكوينيّ ؛ فهو أقربُ إلينا من قربنا لذواتنا . إلهنا يأتي من الخارج ، لكنّه لا يأتي كخارج عنّا ! لعلّ العبارة فيها مفارقة لكم !
نعم ، فالله هو خارج عنّا ، مختلف ، لا يشبهنا ، متمايز عن الخليقة ؛ لكنّه ليس بعيدًا عن الخليقة ولا يهتمّ بها ، بل هو يأتي من داخلنا ، لإنّ قلب الإنسان يسكنه الله وليس في مكان بعيد في الفضاء . ولادة الله في التاريخ البشريّ هي ولادة كلمة ؛ وهذه الكلمة هي ” أقنوم – شخص ” حيّ عاقل ، ناطق ، جامع الكون . يأتي الله إلينا كما يأتي الولد من أمّه في عمق كيانها مُحدِثا تحوّلا بطيئا في جسدها . أمّا غير ذلكَ فيكونُ عبارة عن عنف وإيذاء .
إذن ، لم يكن مجيء الله إلينا كمجرّد ولادة طفل ، بل كان ” مجيء الكلمة ” ، الكلمة صارَ حدثا ، جسدًا ، بشرًا ، لحمًا . لقد رَوحَنَ الله المادّة بولادة المسيح وتجسّد في التاريخ جاعلا من الواقع الماديّ المكان الذي يظهر فيه الله أعماله ، الحيّز الحيويّ لإنعاش المادّة وروحنتها ، باعثا فيها الرجاء والصيرورة للإرتقاء إلى العلى وتطوّر الإنسان والكون بقوّة هذا الروح ذاته الذي رفرفَ على المادّة ، الذي ، هو ذاته ، الروح الذي حلّ على الطاهرة العذراء .
ميلاد المسيح ، ليس فقط ميلاد يسوع الناصريّ من مريم في الناصرة ؛ بل هو أكثرُ من ذلك _ إنه حوارُ الله والإنسان في التاريخ البشريّ . إنه العلاقة الصميميّة بين الله والإنسان ، هو ” قبلة ُ ” الله للإنسان ، من خلال هذا “الطفل الإلهيّ ” ، باعثُ الدهشة والتعجّب . سرّ البراءة والحنان والدفء .
ميلاد المسيح ، يكشف سرّ إله ٍ متحمّس لمخلوقاته لتكوين علاقة واتحاد . ولهذا ، التعليم الكتابيّ والكنسيّ والتقليد ، يسمّي سرّ ميلاد المسيح ، بسرّ التجسّد . فالميلاد والتجسّد سرٌّ واحدٌ . ميلاد الخليقة من جديد بقوّة الروح ، هذا الروح ذاته ، الذي يعمل في المادّة والواقع والإنسان والكون ، هو الذي يُجسّد حقيقة كون المادّة ، بالنسبة لله ، هي كاشفة لسرّ جديد . وليست المادّة ، كما تقول بعض المذاهب الثنائيّة ، شرٌّ وفساد .. بل هي مقدّسة لإنها من الله . والله استعملها في تجديد الخلق . كيف نصف ما خلقه الله بالفساد والدناءة ؟! العالم العصريّ ، قد لا يتحمّل أن يرى المادّة معجونة بالألوهة لإن هذا ، في نظره ، مناف ٍ لحقيقة الله المطلقة . لكن ، إلهنا قادرٌ على أن يكون جدّا ” بسيطـــًا ” ، وهو ، بما أن المادّة هي منه ، وله ، وإليه ، قادرٌ أن يتجسّد ، بطريقته هو ، فيها من دون أن يفقد ألوهيّته وجوهريّته ، لا بل رفع المادّة إلى العلى وأقامها في المجد (سرّ قيامة المسيح) .
سرّ الميلاد وسرّ التجسّد ، هو سرّ تطوّر الإنسان . لإنّ المسيح هو سرّ الإنسان وهو الذي يكشف حقيقة الإنسان ، وليس العكس . المسيح هو نقطة ” أوميغا ” ، هو منبع وغاية وإكتمال الإنسان . فالمسيح هو العنصر السريّ في عمليّة التطوّر ، وهو المطوِّر (بكسر الراء) ، كما تصفه رسالتا بولس إلى أهل أفسس وكولسّي ، ليقود الخليقة جمعاء إلى الآب . بتجسّد المسيح دخلت القدرة الإلهيّة في البشريّة .
بقلم عدي توما / زينيت