وخطير ويسبّبُ الارتباك والحيرة، لا نقدرُ أنْ نفكّر في الله الثالوث إلا فينا، لإننا نحيا، ونعيشُ الثالوث. فالإختلاف الموجود في الله، هذا الاختلاف السري العجيب هو في إتجاهنا، الله ليس بعيدًا عنّا، لكنه معنا، في أحشاءنا وفي كياننا، الى درجة أنه من كثرة العلاقة والالتصاق الزائد معه، نصبح واحدا، مع إحترام خصوصيّة كلّ شخص. الله والانسان كائنَين مختلفَين، لكن بإختلافِهما يقوى الحبّ، وهذا هو أساسُ الحبّ، الاختلاف. فكثيرٌ من علاقاتنا وصداقاتِنا تفشلُ وتقعُ في الغموض والدوار واليأس والمشاكل بسبب عدم قبولنا الاختلاف. فلا يحقّ لي أن أقبلَ شخصًا يكون متشابهًا معي، فإني هنا سأمتلكهُ لي فقط، وهذا ليس حبًّا أبدًا، ولا يظهر الله كثالث يَسندُ ميزانَ العلاقة، بل ككائنٍ حِشريٍ يتدخّلُ في حياتِنا.
الله، لا نعرفه إلا كثالوث، عمله في التاريخ عملٌ ثالوثي، المنطق والعقل لا يريدان أن يرفعا هذا الشمع الذي يغطّي أعيُنهما، لانه كما ذكرنا، في الفقرة الأولى من هذه الشذرات، المنطق، يبحثُ عن الدقّة التاريخيّة العلميّة الظاهرية، كما يفعل المؤرّخ، ويبحثث عن البراهين والتحاليل التجريبيّة، كأنه في مختبر فيزيائي يريد تحضير عمليّة ما، ليستنتجَ بعد ذلكَ ما سيحدث، إمّا يعرف ما سيحدث أو تسقط نظريته التي بناها على الورقة في الفخ. الدقّة العلميّة صعبة التحديد، في مجال الدين واللاهوت والله، ولا يمكنُ تَكرارَ التاريخ أو أحداث التاريخ، ومواقف البشر، والعلاقات، ووضعِها في صحنِ المختبر الفيزيائي، لإظهار نتيجة، فقط لارضاء غرور وخبث العلماء…!
الله، ليس نظريّة رياضيّة يمكنُ بواسطته تجميعَ المعلومات الدقيقة في ورقة ما، وعمل الملاحظات العامّة، والمبرهنات الحسابيّة، مع كون الخطأ والصواب مسموحًا بهما في هذه العمليّة، لكي نصلَ في الآخر الى اظهار من هو الله الواحد. عندما نقول أو يقال لنا، ان الله واحدٌ أحد، يجب بالاحرى، فهم معنى هذا القول والتصريح، وايضا – وهذا هو المهمّ والأكثر واقعية في معرفتنا لله – إظهار كيف عرفت وأيقنت الشعوب والديانات أن (الله واحدٌ)، وما معنى الوحدة هذه..؟، فنحنُ كما قُلنا وذكرنا سابقًا والححّنا، لانعرفُ الله تمامَ المعرفة، واذا كنّا اليوم في هذا الزمن المؤلم والمتراكض المتقلّب، زمنّ الماديّات والاحقاد والغيرة وكسب المال وقتل النفوس الطيبة، لانعطي اعتبارا لله ولو قليلا، فكيف نأتي ونعترف هكذا ونقرّ (ان الله واحدٌ أحد)، من أين اتتنا هذه الفكرة، أو بالاحرى لا نسمّيها فكرة، بل حقيقة الله الواحد، وحدانية الله.
العقلانيون وما شابههم، يريدون اثباتات ودلائل تاريخية ومنطقية، ولا يؤمنون بالعقائد التي، في تصوّرهم، هي من صنع الانسان. هم علماءٌ متفتحون أصحاب دلائل اثارية بحتة. فكيف يفهمون الله الواحد الأحد..؟!
العلماء يؤمنون بالنتائج التي تعتمد على الدراسات والدقائق التاريخية والاثارية، لكن نحن لا نبغي هذا أبدا، لان التاريخ له سمات عديدة، ومنها عدم الدقة. ومصطلح “تاريخ” بشكل واضح، لا يمكن ان يستعمل – ببساطة – للدلالة على الماضي، أو ما حدث في الماضي. التاريخ – بالاحرى – هو نتاج التخيّل والادراك البشريين. اذا هو نشاط تفسيري. المعرفة التاريخية هي مثل الغربال، الذي يحتفظُ بالقطع الكبيرة ويترك القطع الصغيرة لتترشّح عبره.
ذكرنا، أن الله ليسَ كائن جامد صلب، بل هو حيٌّ، كائن شخصي. وهنا، يجب ايضا ان لانصطدم في جدار عال، (الشخص)، الانسان اذا كان شخصا، فالله ليس شخصا كالانسان، أرى أنا من جهتي، ان الانسان الى هذه اللحظة من الزمن، لم يصبحُ انسانا وشخصا بعد إلا قليلا، انه باق في صفة الفردانية (الفرد)، باق كرقم وحيد وفردا ضائعا، فكيف يمكن أن يفهم ذاته وما حواليه، وإذا لم يكن بمقدوره فهم نفسه والعالم كفرد وحيد، فكيف بالاحرى يقدر أن يفهم الله، الذي هو، ليس موضوع فردانية صرفة مستوحشة، لكن شخصٌ حي وعلائقي ذا خصوبة كبيرة جدا…؟!
يعلّق كارل رانر، بخصوص فهم العقيدة الاساسية التي هي عقيدة الثالوث، في الإعتراف بوحدانية الله، لا يتعلق الأمر أولا، باعلان ما ورائي، وان كان مثل هذا الاعلان متضمّنا حتما في هذا الاعتراف. بل يتعلق الأمر بقول، يجب ان يُسمع ويُعترف به ضمن تاريخ الخلاص والوحي، وما تقوله المسيحّية أولا، ليس انّ ثمّة مطلقا واحدا، بل ان الذي تجلّى في ما قام به لاجلنا في تاريخ الخلاص والوحي، هو وحدة الله، وبه وحده يمكن حقا أن يرتبط الانسان، وله وحده يمكن أن يسلّم ذاته بذاك التسليم المطلق الذي يكون جوهر الدين، فالقول بوحدانية الله، لا يتوجّه بالتالي الى مطلق مجرّد، لا يُعقل مسبقا أن يوجد أصلا مطلق أخر الى جانبه، بل الى الاله الذي اختبرناه في الواقع في ما قام به لاجلنا، الى إله أبراهيم واسحق ويعقوب، إله الانبياء واله يسوع المسيح. وهكذا، فإن هذا القول، ليس مجرّد تصوّر بدائي ماورائي لا يستطيع أن ينكره إلا من لا يفقه الكلام على حتميّة وجود مطلق واحد، او من يرى أنه يستطيع أن يفكّر على طريقة الغنوصية (الثنائية)، او المانوية بوجود مطلق صالح ومطلق شرير جنبا الى جنب، وهذا تناقض ماورائي.
زينيت