سلطة الحبّ ، هي سلطةُ الخلق .. لا سلطةُ الكبت والخضوع . فالإنسان وضعهُ الله ، ليس للخضوع المريض بل ” سيّدا للعالم ” ، وكيلا ، قائمًا مقامهُ . وكما أنّ الله يتسلّط بالمحبّة والتواضع واللطافة ، كذا الإنسانُ ، أعطيَ لهُ السلطة على العالم والطبيعة والحيوانات ، ليس بالقسر والعنف والسيطرة والعنجهيّة ، بل باللطافةِ والمحبة والحنان .. ولكن ما نراهُ الآن هو عكسُ ذلكَ .
وهناكَ تشبيهٌ رائعٌ لأحد الشعراء يقول فيه : ” إنّ الله خلق العالم ، كما تخلقُ البحار القارّات ، بالانسحاب عنها ” . صورة الانسحاب ، دليلٌ على إحترام ومسافة وحريّة ولطافة من جانب الله ، من محبّة الطرف الآخر . كما نرى في حياتنا اليوميّة ، في علاقاتنا الإجتماعيّة ، الكثيرون يشمئزّون و “يتنرفزونَ” ، من شخص يلتصقُ بهم دائمًا ، بالعاميّة نقول : ” لزقة “. من الطبيعيّ أننا لا نحب إنسان ” يتّكئ علينا ” دائمًا. عندما أكونُ في سفرة ٍ سياحيّة مثلا ، وأنا جالسٌ في الباص ، والطريق متعبٌ وطويلٌ ، كم أنزعج من هذا الشخص الجالس بقربي ، وهو متّكئ على كتفي ، ويشخُر . لا أحد يحبّ إنسان يتّكئ عليه دائمًا . وفي كلّ مرّة يتّصل بنا ، أو يأتي لزيارتنا … الخ . يجب أن يكون هناك مسافة إحترام مقدّسة تُعطي الإستنشاق لدى الطرفين . وهذه يجبُ أن تكون موجودة ، لا في علاقاتنا وصداقاتنا وزواجاتنا فقط ، بل مع الله أيضا .
في لوحة الخلق لمايكل آنجلو ، نرى أصبع الله وأصبع الإنسان ، في مخيّلة الفنان آنجلو الرائعة ، الواحد مقابل الآخر ، وكأنّ إصبع الله يقول للإنسان : أنتَ . وإصبع الإنسان يقول لله : نعم أنتَ .. ! ولا يتلامسان ، بل هناكَ ” مسافة – لطافة ” في سرّ الخلق الإلهيّ ( بين الله والإنسان فرقٌ جذريٌّ وهاوية بين المطلق والنسبيّ ، بين اللانهائيّ والنهائيّ ) ، إذن الإنسانُ يتميّز بنقص انطولوجيّ دفين ، يسميّه القديس غريغوريوس النيصيّ Diastasis و أوغسطينوس Distensio – المسافة بين الله والإنسان . كما أن الإنسان إقتبالٌ لحريّته من الله ، كما أنّ الإبن الإزليّ إقتبالٌ كليّ من الآب ما يستدعي من الإنسان تواضعٌ حقيقيٌّ ، قد وصفهُ البابا بنديكتوس 16 : إنّ التواضع يقبل سرّ الله ، وثيق به تعالى حتى في الظلمات (الله محبّة ) ، وليس من الصدفةِ والإعتباطيّة أن نرى المسيح ، من بعد قيامته، شخصًا آخرًا مختلفا ، أضحى من عالم الله ، إنسحبَ عن رسلهِ ، مبتعدًا عنهم ، لإنه ولكي تُخلق ” علاقة حيّة وإتصال عميق من نوع آخر ” ، يبتعد عنهم كي يكون حاضرًا بطريقةٍ أخرى في الروح القدس . وفي سرّ الإفخارستيّا المقدّسة . إنها علاقةُ خلق دائم مستمرّ ، وعلاقة محبّة وإتصال (تواصل) Continue ، وعلاقة ديناميكيّة تشدّ أواصرَ العالم والكون وتخلقه من جديد ، إنها علاقة مغناطيسيّة جاذبة ، وقد قالَ الربُّ مرّة ” وأنا متى رُفعتُ (فوق الصليب – أو في يوم الصعود ) رفعتُ إليّ الناسَ أجمعين ) .. إنّ المسيح يعطينا علاقة من نوع آخر ، ألا وهي علاقة ” تمجيد – رفع – جذب ٍ ” نحنُ نرتفعُ في نفوسنا وأجسادنا وضمائرنا لملاقاة الله الآب في إبنه بالروح . وما سرّ القربان المقدّس ، إلا علامة تشيرُ إلى هذا التواصل ، علامة الجسد والدم ، ” الجسد ” هو علامة الدخول في حياة الربّ القائم ، بقوّة المحبة والغفران ، و ” الدمّ ” ، هو علامةُ التواصل والإتصال بين الله والإنسان ، كلّ هذه العلامات القائمة هي علاقات خلق متواصل ، ودليلُ محبّة وتألّه لا حدود لها ، إنها سرّ الدعوة الإلهيّة ، فخلقُ الإنسان على صورة ” الإبن – الكلمة ” هي أساس وختم . وعلى ” المثال ” هي الدعوة الإلهيّة الأزليّة في أن نكون مشابهين ، بسرّ التجسّد ، صورة إبن الله .
فسلطةُ الخلق ، هي سلطةُ ” المحبّة والتواصل والإحترام والحريّة والعطاء والمسافة المقدسة والعلاقة مع الله ” والأكثرُ من هذا ، ما نراهُ في شخص الطفل الإلهيّ في المذود. الطفل الإلهيّ دليلُ التواضع والحنان وحضارة المحبّة ، كما نعرف أنّ كلّ طفل يولدُ في عائلاتنا ، يخلقُ الدهشة والتعجّب والمسرّة والفرح والسرور ، ويولّد الأبوّة والأمومة والمسؤوليّة ، فكيفَ وإن كانَ هذا الطفلُ هو يسوع ، طفلا إلهيّا !
من المؤكّد أنه سيخلقُ الإبتهاج والسعادة ، والفرح الكونيّ والرجاء الصالح للعالمين .. إنهُ جُعلَ لقيام من يؤمنون به بحبّ وتواضع وتخلّي ، ولسقوط من لا يوجدُ في قاموسهم سوى الكبرياء والحقد والتعجرف والتسلط واتباع الملذّات وعبادة الملوكيّة ، والكراسي الفخمة المريضة المستهلكة ، التي لا بدّ لها أن تزول وتسقط في أوحال ومزابل التاريخ البشريّ .
سلطانُ الله ، هو سلطان المحبّة .. سلطان الله الحقيقيّ ، هو سلطان ” إفراغ الذات ”
لله منطقٌ لا يفهمهُ ولا يدركه الإنسان ولا أكبرُ ملك ٍ أرضيّ زائل . لعلّ إنسان العصر الحديث اليوم ، لا زالَ يلعبُ بشجرة ” معرفة الخير والشرّ ” ، هذه التي مُنعَ منها الإنسان ، لكي لا يُفسد حقيقته إنه كائنٌ مدعوّ للإكتمال ، وبإن الهبة والنعمة هي أمامهُ دائمًا لا خلفه ، فهذه الشجرة ترمزُ لإمتياز الله الخالق . أما شجرةُ ” الحياة ” ، فهي ترمزُ للـ ” خلود ” ولو أكلَ منها الإنسان لإغتصبَ الخلود ، في حين أنّ الخلود هبةٌ مجانيّة إلهيّة ، لا إغتصابٌ بشريّ وتعدّي على حقّ إلهيّ بالغصبْ . لهذا قال لنا يسوع : من لمْ يقبلْ ملكوت الله مثل الطفل ، لا يدخلهُ ” . الطفل لا يغتصبُ شيئا ، بل يتقبّل كلّ شيء ٍ من أبويه . فلنتعلّم من الطفل الإلهيّ : يسوع ، عيشَ الطفولة الروحيّة ، عيش المحبّة والتواضع والتخلي ، والثقة ، والبنوّة . الطفل متصلٌ بكائن آخر ، وهو الأب . ونحنُ متّصلون بالآب السماويّ من خلال يسوع المسيح المتجسّد الذي أعطانا سرّ البنوّة الإلهيّة.
زينيت