إنّ الله ، كما يقولُ الكتابُ المقدّس ، ” خلقَ الإنسان على (صورته ومثاله) ” ، لكن هذه الصورة ، ليست كأيّة صورة عبثيّة ، فمن المؤكّد أنّ لها أساسٌ ، ألا وهي : أنّ الله خلقَ الإنسان على صورة ” الإبن ” .. أي ، ليست صورة فوتوغرافية جامدة في زمان ومكان محدّدين . بل إنّ أصل الإنسان هو ” مطلقٌ ” . وهذا ما تثبتهُ لنا كلمةُ ” مثاله ” ؛ فإن كانت الـ ” صورة ” تشيرُ إلى الختم المطلق والأساسيّ ( أي بالعقل – الحريّة – الحبّ – الإرادة ) ، فإنّ الـ “مثال” يشيرُ إلى الكمال والاكتمال Completion ، أو نستطيعُ أن نعبّر عنه بـ ” ديمومة Continuance (أو تحقيق ) مستمرّ . وهذا ما يلمّح إليه الكتاب المقدّس أيضا بصورة ” التراب ” ، رمزيّة التراب . وهنا ، يجبُ أن نستبعدَ أيّ تشبيهات ٍ طفوليّة ، صبيانيّة هزليّة ، أو حتّى كارتونيّة تجعلُ منّا أناسًا سذجا ، متصوّرين بإنّ الله قامَ وأخذ ترابًا ، ومزجهُ بالماء ، وشكّل إنسانا ، ثمّ وبعدَ أن إكتملَ النحت والصنع ، نفخَ في منخريه ” الروح ” فصارَ الإنسانُ ” نفسًا حيّة ” . وكأنّ الخلق ، في هذه النظرة ، لا يخرجُ عن إطار الفكاهةِ والسذاجة والتصوّر الصبيانيّ المريض ، الذي لا يريدُ ، ولو قليلا ، أن يكسرَ حجابَ الإنغلاق العقليّ ، ويضعُ بدلا منهُ ، البصيرة والإنفتاح ، وإدراك الأمور بطريقةٍ أكثرَ جدّية وصدقيّة .
إنّ خلق الإنسان قد تمّ ” من ملء ” باللاتينيّة Ex plenitudine كما يقول الإنجيل ” ومن ملئهِ نلنا بأجمعنا ، نعمة فوقَ نعمة ” يو 1 : 16 ، وأيضا قد تمّ ” من حبّ ” Ex amore ، ” الله محبّة ” 1 يوحنا 4 : 8 .
إذن ، لنكن هنا حذرين في إستعمال المصطلحات والتعابير : إنّ الله خلق الإنسان ” من ملئه – من حبّه” ، لا ” من العدم ” ؛ فالأخير لا وجود له بحدّ ذاتهِ إلا بالنسبة إلينا نحن المحدودين ، وليس هو مادّة سابقة خلق الله بها العالم . أما بالنسبةِ إلى الله ، فالعدم لا وجودَ لهُ ، لإنّ الأمور مكشوفةٌ أمامه كلّها. وهناكَ تعبيرٌ آبائيّ رائع يقول : إنّ الله خلق كلّ شيء ٍ ” من عدم ” ، أي (من لا شيء – من أجل لا شيء ) ، أي لا يوجد محرّك في داخل الله يدعو للأنانيّة والمصلحة النفعيّة أو الغاية النرجسيّة !.
الحبّ هو سرُّ الخلق ، ويجبُ أن نُسقطَ كلّ أوهامنا وتصوّراتنا الجامحة ، التي تُصوّر لنا أنّ الله ، في خلقه ، تسلّط بأسلوب ٍ تعسفيّ على الإنسان ، كسيّد مستبدّ كبير . دعونا من هذه التصوّرات والمخيّلات والأفلام الهزليّة السخيفة ، التي تشوّه لا صورة الله فقط ، بل والأكثر ، صورة العالم والإنسانيّة . دعونا نفكّر بمنطق ومصداقيّة وبعقلانيّة ، فليس الله ضدّ العقل والمنطق أبدًا ، ولم يحثنا من أن ندحض الفكر والعقل والمنطق ، ونركُنهم جانبًا ونهتمّ فقط بالروحانيّات حصرًا ، فهذا قمّة الجهل والغباء المطبق (عذرا على الوصف ) .. تعليمُ الكنيسة واضح في هذه المسألة ، العقل والإيمان يسيران سويّة ولا يتعارضان ، قد يكونُ الإيمانُ فوقَ العقل والمنطق ، لكن ليس مخالفا وضدهما أبدًا ، فكما أنّ الأعجوبة ليست مخالفة لقوانين الطبيعة ، بل هي ما وراء قوانين الطبيعة ، كذا الإيمان هو ماورائيّ وليس مخالفا للمنطق ، وكما قال أحدُ الآباء القديسين ” للقلب (الإيمان ) منطقٌ لا يفهمهُ العقل! .
وكما أنّ في موضوع الثالوث الأقدس ، لا يمكننا أن نستوعبهُ ونضعهُ في ميزان العقل والمنطق ، بل نقدرُ أن ندخلَ في ” عقلانيّة سرّ الثالوث ” .
إذن ، نعودُ ما قلناهُ أعلاه ، خلق الله كان بلا سببٍ ولا حاجةٍ في نفسهِ ، إن أردنا أن نقول ، إن سببَ الخلق هو ” الحبّ – المحبّة ” ، وما سببُ الحبّ – المحبّة ؟! هل نقدرُ أن نجيبَ على هذا السؤال ؟ .. نقول : سبب الحبّ هو الحبّ ولا غير .
إستبعادُ التسلّط والسيطرة والسلطة ، في سرّ الخلق ، سوف يعطينا مدىً بعيدًا ، مستقبليّا للفهم السليم والمقبول . وعلينا أن نضعَ في سلّة حياتنا ، منطق المحبّة ، لا منطق السلطة والسيطرة ، التي وإن كانت في البداية خفيفة على الفكر وبسيطة ، بحسب ما نرى ، لكنّها قد تُصبح في المستقبل وبمرور الوقت ، مرضا وكارثة كبيرة تدمّر نفوسنا ومن هم حولنا ، وقد تتحوّل إلى ” عنجهيّة وساديّة قاتلة ” نعكسها على الله ، ثمّ تنعكسُ في تعاملاتنا اليوميّة مع بعضنا البعض ، وهذا ما نراهُ اليوم في أسياد العالم ورؤساءه .
زينيت