اجتاحت صفحاتِ التواصل الاجتماعيّ موجاتٌ متتابعة من المواقف غير الإنسانيّة وغير الأخلاقيّة تتناول بالسوء الذين ذهبوا ضحايا الهجوم الإرهابيّ الذي وقع في إسطنبول. أمّا الطامّة الكبرى فهي أنّ هذه المواقف كلّها اتّخذها أصحابها بناء على ما يعتقدون، دون سواهم من أبناء ديانتهم، أنّه الموقف الدينيّ السليم الواجب تبنّيه في هذه الحالات.
هذه المواقف المتعلّقة بالأحداث الإرهابيّة تشبه إلى حدّ بعيد المواقف التي تنشأ بعد الكوارث الطبيعيّة التي تخلّف ضحايا بالآلاف، حيث يربط بعضهم أسباب الكوارث بالغيبيّات الإلهيّة. فبعد التسونامي الذي ضرب شواطئ آسيا الجنوبيّة عام 2004، طرح أحد السفهاء على أحد الفقهاء سؤالاً طالبًا الفتوى، والمرجع إحدى صفحات الإنترنت التي يشرف عليها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي. يسأل “أدهم” من تايلاند: “كلّنا قد رأينا ما فعلته الزلازل في جنوب آسيا، وقد فرح البعض في هذه الزلازل وقال: إنّ هذه الشواطئ في هذه الأيّام من السنة يكثر فيها العري والفجور والخنا (الفحش في الكلام) فدمّرها الله تدميرًا. فهل يجوز لنا إظهار الشماتة في هذه الأحداث؟”.
الحمد لله، كان جواب الفقيه عن هذا السؤال أنّ الشماتة غير جائزة، وينبغي مساعدة المحتاجين منهم مسلمين وغير مسلمين، وكذلك المسارعة إلى التوبة، “والله أعلم”. لكنّ المشكلة قائمة في مجرّد طرح سؤال تافه كهذا على هذا النحو النافر. وبصرف النظر عن الجواب ومدى تقدّمه، فإنّنا نجد في السؤال دلالة قاطعة على أنّ الفكر الدينيّ لدى العامّة يمرّ في أزمة، وذلك في الأديان كافّة، وليس دين أفضل من آخر على هذا الصعيد. لكن لا بدّ من الأقرار، من ناحية أخرى، بأنّ تخلّف الخطاب الدينيّ في حالات كهذه إنّما المسؤول عنه الفقهاء الذين ينشّئون العامّة على المزيد من الجهل في الشأن الدينيّ.
في نهاية عام 2010، عزا الشيخ محمّد سعيد رمضان البوطي انحباس المطر عن سوريا إلى أسباب ثلاثة: بثّ مسلسل درامي في شهر رمضان الفائت، وطرد نحو ألف ومائتي مدرّسة منقّبة بقرار من وزير التربيّة، وفرض بعض القيود الدينيّة على المدارس الخاصّة. أمّا المسلسل التلفزيونيّ فهو “ما ملكت أيمانكم” للمخرج السوريّ نجدت أنزور، الذي قال البوطي إنّ أهل المسلسل اتّهموا القرآن بأنّه “يرسّخ الذكوريّة في المجتمع ويرسّخ مجتمع الجواري في النساء”. ولا يرى البوطي زوال هذه الشدّة بسوى زوال هذه الأسباب: “إن زالت هذه الأسباب بإذن الله ستجدون الرخاء قد عاد، وإنْ بقيت هذه الأسباب، فالأمر خطير. هذه هي سُنّة العالمين، استمرار هذا الأمر بهذا الشكل ينذر أكبر معين للماء بالنضوب”. أمّا كيف تزول هذه الأسباب؟ فبتوبة المخرج والممثّلين إلى الله، وتراجع وزير التربية عن قراراته الظالمة وإعادة المدرّسات إلى وظائفهن.
لم يسأل البوطي وسواه من رجال الدين، أهل الاختصاص عن الأسباب الطبيعيّة والبيئيّة لانحباس المطر كارتفاع حرارة الأرض وتنامي القحط والتصحّر. بل استساغوا لأنفسهم أن يدينوا الناس بعامّة، إذ اعتبروا أنّ هذا الشحّ في الأمطار إنّما يعود إلى غضب إلهيّ من آثام الناس وابتعادهم عن التزام تعاليمه، أو فسّروا فيها أسباب الكارثة على أنّها “إظهار لقدرة الله وعقاب للبشر على خطاياهم”.
هذا الخطاب القديم الذي لا يرى سوى الغيب مسؤولاً مباشرًا عن الكوارث الطبيعيّة، هو نفسه رأى في الهجوم الإجراميّ يد الله تعاقب الساهرين. هي ثقافة سائدة يتحمّل وزرها المسؤولون عن الخطاب الدينيّ السائد في العالمين العربيّ والإسلاميّ. فالذين هلّلوا للمقتلة وشمتوا بالضحايا لا يأتون من ذواتهم، بل يأتون من بيئة تقبل وتروّج لهذا النموذج التبريريّ. وقد تكون الشماتة بالضحايا المسلمة أكثر بما لا يقاس من الشماتة بالضحايا غير المسلمة، لأنّها باعتبارهم قد انحرفت، كي لا نقول كفرت أو ارتدّت، عن الصراط المستقيم.
لا ريب أنّ أمثال هؤلاء الديّانين يزيدون نفور الناس من الله والأنبياء. وأكبر خدمة يمكن أن يقدّموها إلى الله هو أن يصمتوا، ويكفّوا عن الكلام باسمه، ويعفّوا عن إطلاق الأحكام. ثمّ، أن يرحموا الناس ويحبّوهم كما توصي الأديان، فـ”الله محبّة”، وهو الرحيم. وما على المؤمنين إلاّ أن يتمّوا فعل المحبّة والرحمة، حتّى يصدّق الناس أنّ الله حقًّا محبّ للبشر ورحيم.
الأب جورج مسّوح