تعرفت الى المطران غريغوار حداد في الحركة الاجتماعية يوم كنا نعمل ونحن بعد تلاميذ في الصفوف الثانوية بمشروع البطاقة الصحية الذي أطلقته هذه الحركة بإيعاز وبدعم لامتناه من هذا المطران المؤمن بقضايا الانسان وحقوقه والذي كان يرفض التفرقة في الحقوق والواجبات بين مواطن وآخر إنطلاقاً من إيمانه المسيحي الحق المبني أيضاً على قضايا الانسان باعتباره الهدف الاساسي في مشروع الله الخلاصي. من هنا مناداته بالعلمانية لأنها الطريق المؤدي الى المساواة بين جميع المواطنين.
هذه الحقبة التي قضيناها قريبين جداً من أفكار المطران غريغوار حداد ومن حياته ويومياته الى جانب قراءاتنا المستمرة لأفكاره ومعتقداته في مجلة آفاق كل هذا جعلنا نتعلق به نحن جيل شباب آتٍ من مناطق مختلفة يحمل اليافع من الأفكار، لكن لحسن حظنا أننا صقلناها ونميناها في هذه المدرسة الإيمانية والانسانية والوطنية الصادقة والشفافة. وهذا ما أكسبنا حصانة ومناعة تجلتا أيام الحرب اللبنانية فلم ننجر ولم ننسَق بل بقينا صامدين لا نؤمن إلا ببلد علماني يصل فيه كل مواطن الى حقه من دون تملق ولا تبعية.
في هذه الاجواء كان لنقل المطران حداد من مطرانية بيروت الى أضنه في تركيا مطراناً فخرياً، كما صفعه في محلة الدورة، أثر بالغ جعلنا نُذْهَل كيف أن الانسان المؤمن بالحق يُصفع مرتين وبقوة من قبل أهل الظلمة والتحجر الذين تُحركهم غرائز وعصبيات. فهم كالقبور المكلّسة.
سيادة المطران … ربما لم تكن تحب هذا اللقب لأنك كنت تعتبر أن المضمون أهم من الشعار والعمل أهم من التنظير ولكن في هذا المجال أنت تستحقه وأكثر لأنك صاحب سيادة بالحوار صاحب سيادة بصدق الأفعال مع القناعات، أنت تستحقه باحترام الرأي الآخر المختلف، أنت تستحقه باحترامك للإنسان لقضاياه الاجتماعية المحقة. ولكن غريب أمر هذا الوطن الذي يُصفع فيه الانسان الصادق الذي يجاهر بقناعاته مهما كانت قاسية وصعبة. كيف يمكنهم أن يشككوا في من يعيش يوميات حياته وفق الايمان المسيحي الصحيح يحترم الانسان ويهتم لضعفه ولحقوقه…..
إذا ما راجعنا حياة الاب غريغوار حداد نراه يتبنى ويعمل من أجل تحقيق كل القضايا المحقة التي يطالب بها أي مواطن لبناني صادق على اختلاف مذاهبه ومشاربه: إرساء دولة علمانية تؤمّن لجميع مواطنيها كافة حقوقهم المشروعة من إجتماعية وصحية واقتصادية.
رجل بهذا الصدق وهذا الوعي الاجتماعي والديني كيف يُصفع بدل أن يكرّم؟ كيف لنا أن نمحو من أمام هذا الجيل الشبابي الجديد كل نماذج الصدق والمعرفة والمواطنية أمثال غريغوار حداد فنصفعهم مرتين؟ والهدف الأكيد هو الابقاء على المصالح والمغانم مصادرة بدون وجه حق وإحباط أي جيل يأمل بوطن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. أمّا قوته هو فكانت أنه بقي وهو على فراش الشيخوخة والألم يجهر بكلمة الحق التي هي صوت ضمير جماعي يسعون بكل قواهم الى إسكاته لأنه يَقُضّ مضاجعهم المرصّعة بمصالحهم الشخصية وبأنانياتهم المسعورة. أليس هذا ضوءا في العتمة؟
إليك السيادة سيادة الحق…
ناجي القاعي
البلد اونلاين