ثمّة أخطاء منهجيّة يقع فيها معظم الذين يغامرون بإجراء مقارنات ما بين الديانات، وبخاصّة أنّهم غير موضوعيّين، بل أحكامهم تقوم على قناعات ذاتيّة راسخة غير قابلة للنقاش. وغالبًا ما ينزلق هؤلاء إلى فخّ التعميم انطلاقًا من وقائع منعزلة أو طارئة.
لا بدّ، بدءًا، من التأكيد على ضرورة التمييز ما بين الديانات من جهة، وتصرّفات المنتمين إليها من متديّنين وغير متديّنين من جهة أخرى. فكلّ ديانة من الديانات تنقسم إلى مذاهب وطوائف وكنائس وفرق شتّى، ولا تتبنّى منظومات لاهوتيّة أو فقهيّة واحدة. حتّى ضمن المذهب الواحد قد تجد تنوعًا في مقاربة بعض المواضيع وليس ثمّة رأي واحد يجمع المنتمين إليه.
يغفل الجوهريّون، أي الذين ينظرون إلى الديانات نظرة جوهريّة جامدة غير متحوّلة، عن مسألة هامّة، هي أنّ العقائد وحدها هي جوهريّة لا تتغيّر ولا تتبدّل بتغيّر الظروف والسياقات. أمّا علاقة المؤمنين بالدولة والمجتمع وبأصحاب الديانات الأخرى، ونظرتهم إلى الحرب والسلام وسواها من القضايا، فغير جوهريّة، بل تتأثّر بالظروف المحيطة، كأن يكونوا أقلّيّة أو أكثريّة، وسواها من العوامل الأخرى المؤثّرة في نظرتهم إلى أنفسهم وإلى الآخر.
لذلك يستحيل، إذا شئنا أن نكون منصفين، الحكم على أيّ ديانة، سلبيًّا أو إيجابيًّا، من منظور تصرّفات بعض المنتمين إليها. بل ينبغي علينا الإقرار بأنّ الديانة، أيّ ديانة، ليست جوهريًّا واحدة. فالمسيحيّة ليست واحدة، فتحت لوائها وببركة بعض رجال الكنيسة شنّ المسيحيّون الحروب وارتكبوا المجازر… إلى أن أقرّت الكنيسة مؤخّرًا أنّ رجالها قد أخطأوا وخطئوا إذ قاموا بأفعال كهذه عبر التاريخ، وقالت إنّ المسيحيّة بريئة من هذه الارتكابات. إذًا، المؤسّسة الناطقة باسم المسيحيّة أخطأت، أمّا المسيحيّة فبريئة.
الإسلام أيضًا، في الواقع التاريخيّ، ليس واحدًا. وما يُرتكب باسم الإسلام، هنا وثمّة، لا يرضى عنه معظم المسلمين. فينبغي عدم الحكم على الإسلام عبر تصرّفات الحركات التكفيريّة والإجراميّة. وهنا تبرز مسؤوليّة المؤسّسات الإسلاميّة الرسميّة عن نشوء هذه الحركات المشبوهة، وعدم التصدّي الفعليّ لوقف زحفها وانتشارها… وما قلناه أعلاه عن المسيحيّة نقوله عن الإسلام.
ثمّة خطأ يقع فيه المتديّنون هو فخّ التماهي ما بين الديانة أو الطائفة في بهاء صورتها التي شاءها المؤسّس أو المؤسّسون من جهة، وواقعها التاريخيّ والراهن من جهة أخرى. فيتمّ إسقاط صورة حسنة للجماعة الدينيّة، بناءً على النصوص التأسيسيّة، هي صورة مغايرة للواقع وبعيدة جدًّا عمّا تقوله الخبرة التاريخيّة. فما خلا بعض القدّيسين لم يرتقِ المسيحيّون، مثلاً، ووفق الخبرة التاريخيّة، إلى مثال السيد المسيح وتعاليمه عن المحبّة والسلام ونبذ العنف. ومن النافل القول إنّه لمن الظلم الحكم على المسيحيّة من خلال ما قام به المسيحيّون عبر تاريخهم الطويل. وهذا الكلام يصحّ أيضًا عن الديانات الأخرى. غير أنّ الاعتراف بانحراف الخبرة التاريخيّة للديانات يساعد، بلا شكّ، في النأي بهذه الديانات من الوقوع ثانية في الأخطاء ذاتها اليوم.
لا يمكن الوصول إلى حلول للمشكلات الناتجة عن الخطاب الدينيّ المعاصر عبر تحسين الصورة الذاتيّة، بل عبر العمل على خطاب جديد يقوم على نقد الخبرات الدينيّة القديمة، والعمل في الآن عينه على الوعي الدينيّ الانفتاحيّ والقابل الآخر المختلف كما هو. فلدرء الفتنة الطائفيّة أو المذهبيّة التي تذرّ قرونها في مختلف بلدان العالم العربيّ لا يكفي القول بأنّ المسيحيّة والإسلام يرفضان العنف والتقاتل الداخليّ، أو بأنّ السنّة والشيعة إخوة في الإيمان وحرام قتال الإخوة… بل القضاء على هذه الفتنة يمرّ عبر مواجهة الجهل والتخلّف، وعبر منع استغلال العامل الدينيّ والطائفيّ في الصراعات الداخليّة، من دون إغفال دور الدولة في طمأنة الناس بأنّهم يحيون في ظلّ دولة عادلة تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات لدى المواطنين كافّة.
ليبانون فايلز
الوسوم :شتّان ما بين الديانات والمتديّنين بقلم الأب جورج مسّوح