ذرفتُ الدمع الحار لغياب غازي عاد، المناضل الصديق ورفيق الدرب، الذي قست عليه الحياة وجار عليه القدر حتى الضربة القاضية بالمرض المفاجئ الأخير، فاضطر للتوقف قسراً عن النضال في سبيل حل قضية آلاف المفقودين والمخفيين قسراً في لبنان وفي سوريا.
كان غازي، ويبقى، مثالا فريدا في النضال، ومدرسة في القيم التي يفترض ان تتلازم مع أي عمل في الشأن العام. لا بد لي من ان اشهد له بما يتيسر من كلمات، علّ شهادتي تفي بعضا من الجميل الذي يحفظه لبنان لغازي. فشكرا لغازي عاد، على ما كان عليه وعلى ما يمثله من قدوة لأجيال من مناضلي حقوق الإنسان:
متفان في حمل قضية انسانية عامة، باتت “قضيته” والتزام حياة، لا عن مصلحة شخصية او مادية أو فئوية سياسية او طائفية. بات ابا واخا وابنا وفيا لسائر ذوي ضحايا الإخفاء القسري والجمعيات الداعمة لقضيتهم.
كان مقداما وجريئا، شامخا ونشيطا في كرسيه المتحرك. كانت له جرأة الكلام حين سكت كثيرون، والعمل حيث لم يجرؤ احد على المواجهة، لا سيما بالنسبة الى ضحايا الإخفاء القسري في سوريا. ما تردد يوما في تخطي الحواجز والمعوقات المادية والسياسية والقانونية. فاقتحم سلميا المحافل الأممية لحقوق الإنسان، واقتحم سلميا المحاكم والمؤسسات الرسمية، واقتحم سلميا حواجز القوى الأمنية في التظاهرات العديدة التي نظمها وقادها دعما لقضيته.
مثابر على رغم الصعاب وانقضاء السنين من دون حلول مرجوة، ثابت على مبادئه الراسخة في قوانين ومعايير حقوق الإنسان، لا يتزحزح في اصراره للوصول الى نتائج عملية، واضح وصريح في بياناته ومناظراته الإعلامية.
عالم بتفاصيل قضيته في ابعادها القانونية والواقعية. ذكاؤه متقد وذاكرته واسعة، تختزن عن ظهر قلب، اكثر واحسن من أي كومبيوتر، الأسماء والتواريخ وأرقام الهواتف وظروف اختفاء الآلاف من ضحايا الإخفاء القسري. ساهم في صوغ اقتراح القانون الرامي الى انشاء هيئة وطنية لحل قضية المفقودين وفي ابرام اتفاقات تعاون مع جهات دولية ومحلية مختلفة.
قدير في التنظيم والتخطيط. عمل على تطوير التعاون بين مختلف الناشطين والجمعيات التي ركزت على فئات مختلفة من ضحايا الإخفاء القسري، في اسرائيل وسوريا ولبنان. نظم تحركات واسس في نيسان من العام 2005 “بيت القضية”، أي خيمة اهالي المفقودين في حديقة جبران قبالة بيت الأمم المتحدة في بيروت، فبات الناشط المحرك لأطول اعتصام في تاريخ لبنان، لا بل في العالم.
اليوم الجمعة، يحتضن تراب لبنان جثمان غازي عاد، وتتحرر روحه الطاهرة وتتوزع في ارواح جميع المناضلين اللبنانيين العاملين في سبيل حقوق الإنسان، قدوة ومثال وضمير قضية المفقودين.
أما نحن، فنستمر في العمل والجهاد الذي بدأه غازي عاد، من دون كلل أو تباطؤ، حتى نصل الى قضية المفقودين وضحايا الإخفاء القسري بمعرفة مصيرهم جميعا وعودة رفاتهم الى ذويهم.
ومن اجل ذلك، نستمر في العمل حتى يصير للبنانيين هيئة وطنية مستقلة متخصصة بحل هذه القضية الإنسانية الكبيرة وبنك معلومات للحمض النووي وغيرها من المعلومات والأدلة العائدة للضحايا وذويهم.
نستمر، حتى يصير لنا في لبنان تجربة ناجحة في الوصول الى الحقيقة والعدالة والمصالحة.
شكراً غازي عاد، ضمير قضية المفقودين … نضالك يستمر.
غسان مخيبر
النهار