لا مجال للمقارنة بين عازف لامع وآخر من العازفين الذين تركوا بصماتهم على ملامس البيانو طوال أكثر من قرن، مدعوين إلى المغامرة بعشقهم وجنونهم في جحيم المؤلّفين العظام أو في نعيمهم، وبوحي من أدائهم، يشعلون ذاكرتهم ويخلّدون أعمالهم. فهل كان من الواجب أن نعثر بين أصابع العازف الملهم شون- جين شو، المتحكّمة بالملامس، المسيطرة على المعايير وتنويساتها، كما على انفعالاته الجسديّة والروحية، على أصابع شبيهة بها للمقارنة؟
هذا الفتى الذي تعرّف ملامحه الآسيوية عن منبعه الكوري، تخطى حدود الوطن ليغدو قبل أن يطأ العشرين من عمره، مواطناً كونيّاً، تدعوه الأوركسترات الفيلهارمونية من كل صوب ليسكب تفوّقه التقني ونقاء روحه، حباً وولعاً في آيات مرسلين جاؤوا على هذه الأرض ليصحّحوا بموسيقاهم الأخطاء التي تتعثّر فيها البشريّة. الموسيقى، هكذا تلقّيناها بنورانيّتها وشاعريتها إكسيراً شافياً، من غير أن نقارن حياكتها بنسيج عازفين كان لهم أسلوبهم في أدائهم البارع للسوناتا الأولى لألبان بيرغ. سوناتا من حركة واحدة، بدا شون- جين شو في أدائها، حرّاً من قيود النسخ والتقليد، بل منفرداً في هذه المسارّة الروحيّة مع كاتبها، مسكوناً بنيات بيرغ، وبكلمات هذه السوناتا المحفورة في ذاكرته، الموشّحة بهالة من الوحي النقي، الشفّاف. خلناه في هذا التسامي بكل نوطة، في صدد قراءة رسالة كتبها بيرغ خصيصاً له.
هذا الفتى الواقفة تكاوينه عند سن المراهقة، فيما روح الموسيقى الساكنة فيه، لا حدود لكونيّتها، أصبح عازفاً عالمياً بحفنة سنوات. ففي العام 2015 حاز الجائزة الأولى في مسابقة فريديريك شوبان الدوليّة في فرصوفيا، أضافت إلى شهرته العالميّة المبكرة، التي أطلّ بها على الموسيقى العالميّة، مزوّدا الجائزة الثالثة لمسابقة تشايكوفسكي الدولية وكان آنذاك في السادسة عشرة. شون- جين شو، ينتمي إلى كوريا الجنوبية، هذا البلد الذي يصدّر جيلاً من المبدعين في شتى مجالات الموسيقى، كما يصدّر السيّارات إلى العالم. الروح الآسيوية المرهفة، هي الشعلة الدائمة تنير القيمة التقنيّة المتينة. فشون- جين شو بانتقاله من بيرغ إلى شوبير ثم في ختام أمسيته إلى “بيروت تغني”، بشوبان، كان روحاً هائمة في ملامسه، يبثّها من أعاصيره وسكينته. فعلى هذه المسافة من النوطات العاجيّة شيّد وطناً له.
مع السوناتا التاسعة عشرة لشوبير، فتح لنا قلب عاشق بأعاصيره وسكونه. بأصابعه الخارقة عالم شوبير الظليل حيناً والنائصة شموسه حيناً آخر، يبدو لنا هذا الباهر في اختراقه العالم الشوبيرتي بأنامل مدعوكة في سر الملامس، كأنه خرج من سن المراهقة إلى حيث امتحانات الحياة. في ذاكرته سوناتا بكاملها، بألوانها الخريفية، يبثها من نضوجه وفتوّته في آن واحد. أما سمعناه ينكش في طبقات الجملة ليستخرج منها ما يطلبه شوبير من عازفه؟ الأداء ليّن، أثيري، هكذا نتلقى الحدث بكامل روعته، ليريكياً، عذباً، شائكاً، ومن روح شوبير المقشعرّة تحت أنامل تتفاعل بسريّة رقيقة حين تلمس أماكن الشجن.
كان لا بد من أن ننتظر قدوم شون- جين شو إلى “بيروت تغني”، متوّجاً بجائزة شوبان الدولية، لنستمع في هذا الدفق السيّال إلى أربع وعشرين بريلودة عزفها عن غيب، كمن يكتب رسالة واحدة، دونما توقف، حتى يبقى الوحي بارزاً في هذه الجدارية التراجيدية، ولا سيّما حين يترك التعبير ليده اليسرى، ترسم بأحاسيس ملتهبة شموساً سوداء. شون إنسان جاء إلى الموسيقى بأحاسيسه المرهفة من دون الغرق في رومنطيقية هزيلة. ها هي مشاعره مكسوة بديناميّة تبث الأداء قوة من دون أن يقل منها المعنى الشاعري، المجازي. الصفحات تبدو لنا من بريلودة إلى أخرى، مرتجلة، أكان في أماكن الحلم والتأمل أم حين يعلو إعصار شوبان. على هذه السكة أخذنا شون الجنيّ الساحر، في سفر إلى أعماق شوبان.
مي منسّى
النهار