يواصل الشاعر والناقد ربيعة أبي فاضل مشواره الدؤوب مع الشعر الصوفي، وفي الواجهة ديوانه المُشرق الجديد، “شيخ العزلة”، الصادر للتوّ لدى “دار نلسن”، والمضاء بقناديل الوجد الروحي، والمهجوس بالمغادرات، وهو على قول الناشر “شعر يفيض عن حدود القصيدة”، و”يأتي من إيمان كبير بالشعر”.
ينبغي لي أن أقرأ الديوان من قصيدته الأخيرة، “بيت الروح”، لأنها الرحيق والخلاصة والجوهر. فالشاعر لم يعد عنده قصص يكتبها، بعدما صار هو القصة. ولم يعد عنده بحارٌ يعبرها، بعدما صار هو البحر. ولم يعد في ذاته أحلام يحكيها، بعدما صار هو الحلم. هذا الشاعر القروي، الريفي، المسكون بالأسئلة الوجودية والكيانية الممضة، والمقيم في قلب الحداثات والتراثات، والموصول بنسغ الأرض، والمجبول بالتراب اللطيف، الأنيق، الكريم، الأبيّ، لم يعد عنده حقلٌ يحرثه، بعدما صار هو الحقل. ولم يعد في الفضاء ثمارٌ يقطفها، بعدما صار هو الثمرة. ولم يعد في الغابات ينابيع يرتوي بها، بعدما صار هو الينبوع.
مستكملاً آياته، يقول إن قلبه لم يعد فيه ألحان يرسلها، بعدما صار هو اللحن. ولم يعد في البعيد فجرٌ ينتظره، بعدما صار هو الفجر. ولم يعد عنده وطنٌ، بعدما صار هو الوطن. وكذا يقول عن الحركة، بعدما صار في رحم السكون. وكذا بالنسبة إلى الصباح لأنه صار فراشة النور. أما ضربة النرد الأخيرة فتتمثل في اتحاده بالروح، وردمه هوة القلق الفاصلة بين بلد الهنا وبلد الأبد، معلناً امحاءه وذوبانه وانتماءه الكليّ إلى “بيت الروح”.
إذا أردتُ أن أختصر الديوان – وهو لا يُختصَر – لكان عليَّ أن أقول النهايات في البدايات، لألفت القارئ إلى الموضع الذي يقيم فيه الشاعر، وتتحرر فيه كلماته من ربقة المادي، والآني، والعابر، والزائل، لتتواصل مع فتنة المطلق. لم يعد الموت مثيراً للقلق عند أبي فاضل. لم يعد الانفصال مدعاة للأسى. لا شيء يتعلق به الشاعر هنا، ليس لأنه لا يحب الأشياء والكائنات التي هنا، بل لأنه فحسب صارها كلّها، وصار في مقدوره أن “ينقلها” معه إلى حيث لا بدّ من الإقامة اللانهائية، في بيت الروح.
قصائد ربيعة أبي فاضل، تعلن السلام، وتبتهج به، وتغنّي له، وتنشد الأناشيد، وتصلّي، وتتجلّى منسابةً، متراقصة، متهادية، في استخدامات الإيقاع الموسيقي الذي يترنّح كما يترنّح المصلّي المهجوس بمخاطبة الخالق.
وإذا كان الديوان ملفوحاً بأثرٍ واضحٍ من مكوّنات الحقل المعجمي للشعراء “التموزيين”، وخصوصاً بما حفلت به دواوين خليل حاوي، فإن ذلك لا يقلّل أهمية “شيخ العزلة”، وخصوصيته اللافتة، بل يرسّخ انتماءه إلى هذا الفضاء الرحب، ويجعله علامة مضافة، لا بدّ من الوقوف عندها لدى كل محاولة نقدية وتأريخية جادة.
وإذا قلتُ إنه ينبغي لي أن أقرأ الديوان من قصيدته الأخيرة، فيجدر بي أن أختتم القراءة بالقصيدة الأولى، “عبور”، حيث يشقّ ربيعة أبي فاضل دروب الديوان والقصائد والكلمات، باحثاً “عن كهوف للعبور إلى الديار”. وأيّ ديار، هي هذه التي يبحث عنها؟ إنها الديار الديار. وهي… بيت الروح!
النهار