ليس لبنان مهدداً بالعقوبات أو بغيرها من المخاطر وحسب، بل أضحى مهدداً بما هو أسوأ بكثير، أي بخسارةِ ما تبقّى للإنسان فيه من شرف وكرامات.
فالبقيةُ الباقيةُ في وطني من الشُرَفاء الأوفياء، ممن يَستظلون مخافةَ الله سِتراً لهم، بصبرٍ وصمتٍ وصلاةٍ وعزّةِ نفسٍ مؤمنة، يُدركون اليومَ بأن لبنانَ “وطن الرسالة”، بحسب توصيفِ قدّيسٍ أحبَّه، قد أضحى “مجروحاً لأجل معاصينا ومسحوقاً لأجل آثامنا، لا صورةَ له ولا جمال فننظُر إليه ونشتهيَه” (أشعيا 53).
غير أن هذه البقية الباقية وقفت أمام هذا الواقع الذي عَجِزتِ الحلولُ المنظورةُ إليه سبيلاً، وخاطبت ضميرَها بصدق وإيمان لتختارَ بين أمرين:
- إما أن نقفَ أمامَ أوجاعِنا نَنعي حيناً واقعَنا الأليم، ونشتمُ أحيناً من أوصَلَنا إليه، عن معرفةٍ أو غير معرفة،
- وإما أن نُبادِرَ ولو بالقليل المُـتيَسَّرِ من مساحةِ قُدُراتِنا على أنواعِها، لنُخفّفَ من وطأةِ الآلام، ولنُنقِذ كرامةَ الإنسان في لبنان من براثن الذّل والحِرمان.
فاتخَذَت بلا تردّدٍ، مجموعةٌ من هذه البقيةِ المؤمنة بالله من أبناءِ وطني،الخيارَ الثاني. علّها بخيارها هذا تنشل من قعر الذل شعباً يُعاقَبُ كلَّ يوم ويموت تحت ثِقل الإهمال والظلم واللامبالاة. وقد تعاطَفَتْ مع هذه المبادرات الإنسانية الجريئةِ قلوبُ الكثيرين، وهم المترقّبون، بروح خوفِ الله، فَرَجاً من أسفل أو من علُ، علّه يُنقِذُ ما تبقّى لدى اللبنانيين من حقوق سُلبت وكرامةٍ ديسَت، حتى مِن بعضِ أقدامِ من يدّعون حمايتَها، من رجالِ دينٍ ودُنيا.
ولم تتخذ مجموعةُ البقيةِ المؤمنة بالله من أبناءِ وطني خيارَها الثاني المذكور أعلاه، إلا لأنها تخافُ الله وحُكمَه العادل. ولا توجدُ صورةٌ أبلغ من تلك التي أعطاها المسيحُ عن يوم الدينونة. ففي هذا اليوم سيكون مصير من داسوا على كرامةِ الناس في أبسطِ حقوقهم، وخيماً. فبعد فصلهم عن شماله سيسمعون منه الحكمَ بحسب أعمالهم : “إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية، لأني جعتُ فما أطعمتموني وعطشتُ فما سقيتموني، وكنت عرياناً فما كسوتموني، ومريضاً ومحبوساً وما عدتموني. فما فعلتموه مع أحدِ إخوتي هؤلاءِ الصغار فلي قد فعلتموه (متى 25).”
أمام رهبةِ الدينونةِ هذه، على كلّ لبناني شريف أن يبادِرَ ولو بالقليل المُـتيَسَّرِ من مساحةِ قُدُراتِه على أنواعِها، ليخفّفَ من وطأةِ الآلام، ولِيُنقِذَ كرامةَ الإنسان في لبنان من براثن الذّل والحِرمان. فأمام واجبِ احترامِ الإنسانِ وصونِ كرامتِه، يَسقطُ كلُّ خوفٍ من عقوباتٍ عابرة من أي سلطةٍ بشرية أتت، ومهما علا شأنُها. فالعقابُ الأخير أجدى بأن يؤخذ بالحسبان، وأن يَدفَع بالإنسانِ إلى محبةِ أخيه بالفعل لا بالقول. فالأديان السماوية مجتمعةً تذكّرنا بأنّ “رأس الحكمةِ هي مخافةُ الله” (المزمور 110)!
إن الضميرَ الحيّ، هو الضميرُ الذي يميّزُ حضورَ الله في صورةِ كلِّ انسان. فإذا رأى أن الله مُهانٌ في أحدٍ من “إخوته الصغار”، فعلى هذا الضمير أن يبادِرَ مسرعاً وبلا تردد كي يُعيدَ لله كرامتَه ويُنقِذَ صورتَه في الإنسان الذي أبدعَه بأمرٍ من فيضِ حُبّه، مهما كان الثمن، حتى التضحيةِ بالذات في سبيل من نُحب! وهذا ما لم يبخل به الآبُ بابنه، فأسلمَه للموت من أجلنا كي نستعيد بموته كرامتَنا وصورتَنا التي بليت بالخطيئة (روما 8). وهذا ما لم يبخل به شهداؤنا أيضاً على مدى الأجيال، في سبيل الدفاع عن كرامتنا وصون حريتنا وديمومة بقائنا، وبقاء لبنان.
إن المبادرات الشجاعة والسخيّة من بعضِ المؤمنين من وطني، في لبنان أو خارجَه، قد أشعَلَت قلوبَ الكثيرين بالأمل، وكسَرَت حواجزَ الخوفِ والتردد، والتَقَتْ مع الكثيرين من أصحاب الضمائر الحيّة، الذين يُصغون بصمتِ تقواهم إلى أنين المجروحين في كراماتِهم والمذلولين في أرضهم. فهؤلاء المؤمنين من أرضي لم يكتفوا بتشخيص المرض وانتظار الفرج من المجهول، بل بادروا ويبادرون في كل مناسبةٍ وفرصة ممكنة إلى إنقاذ الإنسان في لبنان، قبل أن يُقتل في كرامتِه ويُهان.
لهؤلاء المعروفين والمجهولين معاً، كلّ التحية والعرفان.
فلينظر، ختاماً، كلُّ واحد منا إلى الله بتهيّبٍ وخشوع، وليسأل ضميرَه بصدق وأمانة: أيّاً من الأمرين سأختار، الوقوف متفرجاً منتقداً ناقماً على الواقع الأليم، أم مبادراً ولو بالقليل المُـتيَسِّرِ لديّ للتخفيف من وطأةِ الآلام؟
فإذا اخترتَ الوقوف متفرجاً، أقلّه الزمِ الصمتَ ولا تعرقِل من يحاول بخوفِ الله، بما تيسّر، أن ينقذَ شعبَه من الأوجاع والضيقات، ويؤمّن له ما تَوَجَّبَ من صونٍ للكرامات، لا طمَعاً بمُتَنَعَّماتٍ ولا خوفاً من عقوبات، بل حبّاً بالله والإنسان، آمين.
الأب د. إيلي نخّول م.ل
مرشد الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة – لبنان (اوسيب لبنان)