في رواية «ضباب»، يتقمّص شخصية بطلها البرجوازي أوغوستو والذي ترعرع يتيم الأب، يرتع من حنان الأم، تربّيه وتسهر على راحته وتموت بعد أن بلغ مرحلة الشباب وأكمل تعليمه، لترسخ صورتها في ذهنه وتصبح جزءاً من يومياته بتفاصيلها.
ويلتقي ذات يوم بالصدفة بفتاة أحلامه أوخينيا ليقع في غرامها من النظرة الأولى، فتعرض عنه لأنها مغرمة بشاب آخر، وتتركه يقتات من بذور خيبته، فيقرّر ألّا يكون أنانياً ويدعها لحبّها، ويحاول البحث عن فتاة تحبه يتلهّى بها ولكن عبثاً… فالحب ملكٌ لا سلطان فوقه يدّخر كل قوته وأعصابه ليجلده بنار الحنين.
وتتطور الظروف لصالحه في تقاطع من الرواية فتتشاجر أوخينيا مع حبيبها وتوافق على خطبته لها، ولكنها لا تلبث أن تتراجع عن قرارها فتفرّ مع عشيقها يوم خطبتها بأنانية راكدة عمياء، تاركة لأوغوستو رسالة اعتذار تفضي به إلى حتفه، حيث تجده الخادمة ميتاً في اليوم التالي، وتحت قدميه يجثو كلبه الوفي بارداً كالموت أيضاً. هنا تبرز فلسفة بلورية تتمحور حول أنّ الكلب كان أوفى من الحبيب ولم يترك صاحبه إلّا ليرافقه نحو حَتفه الأخير.
الإطالة والتشويش
الرواية تعجّ بحوارات طويلة مملّة لا تفيد تطريز الحبكة، ونلمح تأثيرات رواية «آلام فارتر» للكاتب الألماني غوته في دهاليزها بشكلٍ ملفت، حيث يكون الحب من طرف واحد ويودي ببطله إلى التهلكة.
التنامي السردي عبر التعتيم و»التفلسف» لم يتناغما في الرواية فلم تأتِ المزاوجة بين العمل على مكنونات فنية تنفح الخطابات السردية بروح الحيوية، بل انعكست باردة خابية، يختصرها القارئ صفحات بكاملها بملل واضح.
المنظورات الفلسفية الوجدانية للكون والوجود من منظار الكاتب تأتي مشوّشة غير واضحة لا تبثّ الرسالة بشكل جَلي، أو بمفهوم أيدولوجي، بل لا تكاد تمسّ العمق الإنساني، الذي نجح غوته في غربلته وإظهاره حيّاً من غير لين.
مستويات الوصف
أمّا استلهام المعنى المجازي للحب فقد كان جميلاً، قدّم ظلّاً لمرآة الجمال الملازمة له، فقد تناوب الكاتب على التحايل على الوصف ليأتي أكثر وهجاً واشتعالاً لتسريب الفضاء الإيهامي لسقف الرواية.
وهنا نرى أنّ الكاتب ميغيل يطبّق نظرية الحب التي آمن بها إيماناً مطلقاً، فقد اعتبر ضمن فلسفته بأنّ الحب يشبه غزل الشمس لخيوط الربيع، يتربّع في صدارة الكون، منه أتينا وإليه نعود.
لم يحكم الكاتب سلطاناً في روايته إلا قليلاً، فقد كان سيّداً في الوصف متفرّداً بتلابيب معانيه ولكنه فشل في تدوير الرواية وتهيئتها «تخديريّاً» للقارئ، لتكون عصا ثاقبة تغوص في رمال لا تتحرك من بادية كثيرة الغموض بتقلبات النفوس البشرية، وكلّ كاتب مهما بلغت ذروة قوته الإبداعية ينزلق بسرعة الريح عندما يضيع منه خيط من خيوط التحكم البنياني للنص.
«ضباب» هي رواية الوصف «الفوق المستوى» للحب، تُبرِز معاصيه ومواطن ضعفه، ولكنها كانت جرفاً للأحداث الدراماتيكية اللازمة، التي نأى بها الراوي عن مناطق الحدث، ليستعيض بالكثير من السرد العبثي والخطابات السطحية في سبيل سد الثغرات الناشئة عن تماهيه غير المنطقي في عالم الوصف الذي منح الرواية روح الجمال وجرّدها من روح المغامرة والتشويق.
الجمهورية