يؤكّد المطران العلاّمة جورج خضر أنّه والأرثوذكس، بعامّة، “علمانيّون استراتيجيًّا، قائمون في النظام الطائفيّ حاليًّا، مشاركون فيه عن غير سوء ولا عصبيّة لكونه الوجه الحالي للدولة”. ثمّ يذكّر هو نفسه بأنّ “الأرثوذكس، تاريخًا ولاهوتًا، لا يستطيعون أن يكونوا حزبًا ملّيًّا يستمدّ توجيهًا والتزامات سياسيّة واحدة من الأساقفة أو ممّن يفوَّض له أمر الأرثوذكسيّين دنيويًّا. نحن لا ننسى أنّنا فقط مجتمع كنسيّ ولكوننا كذلك لنا وجه حضورنا في السياسة. إنّه حضور مع الكلّ ومن أجل الكلّ انطلاقًا من التزامنا الإيمانيّ” (الكنيسة والدولة، منشورات النور، 1982، ص 42).
ثمّة حدّ أدنى يتّفق عليه المنادون بالعلمانيّة، مهما اختلفوا في التعريف بها، هو الفصل ما بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة، واستقلاليّة هاتين السلطتين إحداهما عن الأخرى بحيث تحترم كلّ منهما نطاق الأخرى. فلا تفرض السلطة السياسيّة على المؤسّسات الدينيّة ما يخالف عقائدها، ولا تمارس السلطات الدينيّة وصاية شرعيّة على المجتمع والناس.
موقفنا من الدولة، دينيّة كانت أو غير دينيّة، مؤمنة أو ملحدة، لا يقوم إلاّ على مدى احترامها حرّيّة الإنسان وحقوقه وكرامته. فصفة الدولة لا تعنينا بقدر ما تعنينا المعايير التي تعتمدها في ممارسة الحكم. فالعديد من الدول العلمانيّة تتقدّم بأشواط أمام دول ذات صبغة دينيّة في مسألة احترام حقوق الإنسان. وثمّة دول بلا دين للدولة تحترم أكثر من الدول الدينيّة القيم الدينيّة الأساسيّة.
العلمانيّة التي نتوق إليها هي ذلك المجال الحياديّ وغير المنحاز، ذلك المجال المشترك الذي لا يدين بأيّ إيديولوجيا دينيّة أو غير دينيّة، والذي يحيا فيه كلّ مواطن فرد حرّيّته عبر ممارسة ما ينسجم مع قناعاته وبما لا يمسّ بحقوق شركائه في الوطن الواحد. العلمانيّة التي نتوق إليها هي تلك العلمانيّة التي تحترم التنوّع الدينيّ والثقافيّ والإثنيّ والسياسيّ…
في المقابل، يتّفق معظم اللبنانيّين على القول إنّ الطائفيّة هي العلّة الأساسيّة التي تجعل البلد ينتقل، وباستمرار، من أزمة إلى أخرى. ويتّفقون على القول إنّ الطائفيّة، وإن لم تكن دائمًا السبب الرئيس في اندلاع النزاعات الداخليّة، كانت هي الوقود الذي استعمله أصحاب الشأن في إذكاء نار هذه النزاعات وتحوّلها إلى حروب لم يسلم من أذاها اللبنانيّون كافّة، فدفعوا الأثمان غاليًا من حيواتهم وأرزاقهم.
وثبت بالبرهان القاطع أنّ على اللبنانيّين، كي لا ينزلقوا بين حقبة وأخرى إلى شباك الفتنة الداخليّة، أن يتجاوزوا الحالة الطائفيّة إلى حالة المواطنة حيث تتقدّم، في المجتمع السياسيّ وفي الدولة الجامعة، الهويّة الوطنيّة والعصبيّة الوطنيّة على سواها من الهويّات والعصبيّات الدينيّة أو المذهبيّة أو الطائفيّة. وأولويّة العصبيّة الوطنيّة لا تلغي في أيّ حال من الأحوال العصبيّات الأخرى التي لكلّ منها مجالها وحيّزها. ففي الشؤون الوطنيّة ثمّة عصبيّة جامعة، وفي الشؤون الدينيّة ثمّة عصبيّات أخرى، ولا يجوز الخلط بينها.
لا يسعنا، في واقعنا الاجتماعيّ والسياسيّ الحالي، إنكار ما للعصبيّات الطائفيّة من تأثير متعاظم في تشكّل العلاقات ما بين اللبنانيّين. لكنّنا، في الآن عينه، لا يمكننا أن نحيا في تناقض فاضح بين ما نقوله وما نصنعه بالفعل. ثمّة انفصام مرضيّ يهيمن على الخطاب السائد في الأوساط السياسيّة من حيث التأكيد على أهمّيّة إلغاء الطائفيّة السياسيّة من جهة، والعمل الحثيث على ترسيخها من جهة أخرى. لكن قبل إلغاء الطائفيّة السياسيّة لا بدّ من القيام بعدّة خطوات ضروريّة من دونها لا يمكن الوصول إلى إلغاء حقيقيّ للطائفيّة، بل نكون قد انتقلنا إلى حالة طائفيّة جديدة أشدّ سوءًا من الأولى، حيث تسيطر فيها الأكثريّات العدديّة الطائفيّة والمذهبيّة على الأقلّيّات.
بيد أنّ ما يثير الاستغراب إنّما هو إيمان بعضهم بجدوى الحلول الطائفيّة والمذهبيّة للمشاكل التي تعصف ببلادنا، فلا يمكن معالجة الداء الطائفيّ بمزيد من الطائفيّة. لذلك الحكم الطائفيّ القائم على التحاصص الطائفيّ، ليس حلاًّ معقولاً، بل سوف يفاقم المشاكل. فما تشهده بلادنا هو نتيجة منطقيّة لما أخفقنا في تحقيقه عبر قرن من الزمان، أي في صنع دولة المواطنة والمؤسّسات والقانون. أخفقنا في صنع دولة تذود عن حقوق المواطنين وحرّيّاتهم العامّة، لا عن فساد السلطات القائمة أو عن “حقوق الطوائف”. أخفقنا في صنع دولة يجد فيها كلّ المواطنين أنفسهم ينتمون إليها من دون الشعور بالغبن أو بالاضطهاد. أخفقنا في صنع دولة لا يكفر بها أحد لأنّه لا ينتمي إلى مذهب المهيمنين عليها، أو إلى إحدى الطوائف الكبرى التي تحتكر السلطات القائمة فيها.
بداية الكلام مع الكبير جورج خضر، وخاتمته أيضًا: “يبدو لي أنّ الدولة العلمانيّة التي تحترم كلّ دين وترحّب بكلّ مواطن كفؤ في المنزلة اللائقة بخدمته هي الأقرب إلى قلب الله (…) ولا ننسينّ أنّ دولة للمسيحيّين أو دولة للمسلمين يمكن أن تكون أبعد الكيانات عن الحرّيّة والعدل وأنّ لها باسم الدين أن تبطل كلّ قيمة إنسانيّة وأن تجعل مجتمعها سجنًا رهيبًا. الدولة الدينيّة رهيبة جدًّا لأنّنا لا نعرف في التاريخ دولة كانت حقًّا حكم الله في الأرض ولكنّنا نعرف دولاً ثيوقراطيّة يتحكّم بها رجال دين كائنة ما كانت تسمياتهم يحكمون بنصوص هي من قريب أو بعيد لإلههم ويحكّمون شهوات هي من قريب لهم وعلى الناس” (الكنيسة والدولة، منشورات النور، 1982، ص 39-40).
ليبانون فايلز