تمتدح دولنا، والمؤسّسات الدينيّة الدائرة في فلكها، ذاتها حين تضفي على نفسها صفات لا تنطبق على تصرّفاتها. ثمّة هوّة سحيقة بين ما تقوله وما تفعله على أرض الواقع. ولنا في التفاخر بما يسمّى التعايش المسيحيّ الإسلاميّ خير دليل على الازدواجية في الخطاب والسلوك.
هل يعقل، مثلاً، في القرن الحادي والعشرين أن يحكى في مصر عن “النسيج الوطنيّ الواحد” الذي يجمع المسلمين والمسيحيّين، وفي الوقت عينه تنشب فتنة طائفيّة ما بين أبناء قرية واحدة، اسمها طهنا الجبل في محافظة المنيا، بسبب الاعتراض على توسيع كنيسة القرية وإنشاء مبنى للخدمات إلى جانبها؟ هل يعقل، أيضًا، أن تنشب فتنة أخرى، اسمها أبو يعقوب في المحافظة ذاتها، بسبب إشاعة عن تحويل منزل إلى كنيسة؟ هل يعقل أن تحصي “المبادرة المصريّة للحقوق الشخصيّة”، وفق صحيفة “الحياة” 20 يوليو 2016، 77 واقعة توتّر وعنف طائفيّ في محافظة المنيا وحدها منذ عام 2011؟
لا ريب في أنّ الدولة هي المسؤولة عن تنامي التوتّرات الطائفيّة، بسبب تقاعسها عن إقرار مشروع قانون عصريّ لتنظيم بناء الكنائس وترميمها، لكن أيضًا بسبب تقاعسها عن ملاحقة المعتدين، فالباحث إسحق إبراهيم من “المبادرة المصريّة” اعتبر، في حديث لصحيفة “الحياة”، أنّ “الاحتقان لدى المسيحيّين يزيد بسبب تكرار الاعتداءات عليهم من دون رادع. وهناك تجاهل رسميّ لتلك الاعتداءات وتعنّت من الجهات الأمنيّة والتنفيذيّة خصوصًا في منح تراخيص ترميم وإنشاء الكنائس”.
بيد أنّ المؤسّسات الدينيّة لا تقلّ مسؤوليّتها في هذا الشأن عن مسؤوليّة الدولة. فلا يكفي أن يستنكر الأزهر هذه التوتّرات الناشئة عن خلافات على بناء كنائس أو ترميمها، بل هو مدعوّ إلى السعي الجدّي والحثيث في الاجتهاد من أجل قبول المجتمعات الإسلاميّة لبناء الكنائس. لا يكفي أن يقول الأزهر في بيان رسميّ عن أحداث قرية طهنا الجبل إنّ “أبناء مصر نسيج واحد، وعلى طرفي المشاجرة تحكيم لغة العقل والاحتكام إلى القانون وعدم إعطاء فرصة لبعض النفوس المغرضة التي تحاول بثّ الفرقة وإشعال الفتنة الطائفيّة بين أبناء الوطن الواحد”.
ما جرى في طهنا الجبل وسواها من قرى المنيا إنّما هو نتيجة عدم قدرة المؤسّسات الدينيّة الرسميّة على إنشاء خطاب دينيّ متجدّد يتناسب وروح العصر. فإلى الآن ترعى الدولة المواطنين الأقباط بقوانين وفرمانات ترقى إلى أيّام الدولة العثمانيّة… أمّا المؤسّسات الدينيّة الخاضعة للدولة فتصمت عن الغبن اللاحق بشركائها في الوطن، فلا تسعى إلى اجتهادات فقهيّة حديثة تتبنّى المساواة التامّة ما بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات. ولنا في القيود الموضوعة أمام السماح ببناء الكنائس والتسهيلات الهائلة أمام بناء المساجد مثالاً ساطعًا على التفاوت في المعاملة.
الاعتدال الديني الذي تتذرّع به المؤسّسات الدينيّة غير نافع في أيّامنا لأنّه اعتدال جامد يبقي الأمور على ما هي عليه بدلاً من أن يكون اعتدالاً إيجابيًّا يقدّم اجتهادات جريئة، وبخاصّة في الأمور ذات الصلة بالعلاقات ما بين المسلمين وغير المسلمين. فتلك العلاقات ما زالت تحدّدها مدوّنات فقهيّة قديمة تجاوزها الزمن والواقع والحضارة. هذا الاعتدال الوسطيّ، كما هو حاله اليوم، لا يمكن أن يقدّم حلاًّ ناجعًا للمجتمعات المتنوّعة دينيًّا أو مذهبيًّا.
لذلك لا بدّ للمؤسّسات الدينيّة، إذا أرادت أن تكون فاعلة ومؤثّرة في تقدّم مجتمعاتها، من أن تمارس دورها الكامل في مساعدة الدولة على التحرّر من تشدّد المتشدّدين كي تسنّ قوانين وتشريعات لا تفرّق ما بين مواطن وآخر، أو فئة وأخرى. لا يجوز للدولة أن تتذرّع بالدين كي لا تقدم على بعض الإصلاحات في دستورها، كما لا يجوز للمؤسّسات الدينيّة أن تستقيل من الاجتهاد الذي هو مهمّتها الأولى كي لا نقول الوحيدة إلى حين.
الأب جورج مسّوح