لو رغبت يومًا في زرع فتنة داخليّة لا تبقي ولا تذر، فدونك العصبيّات والغرائز تثيرها وتغذّيها باسم قيم ومثل عليا. ولا ريب في أنّ أسهل العصبيّات إلى التحشيد ولمّ شمل الدهماء في مواجهة الأعداء إنّما هي العصبيّات الطائفيّة. ولو شئت فتيلاً سهل الاشتعال، قابلاً أن يندلع في أيّ زمن معقول أو غير معقول، فالطائفيّة أحسن فتيل جاهز دومًا وأبدًا في الخدمة.
تسمع عظات وخطبًا دينيّة تدعو إلى السلام والوئام والمحبة والرحمة فتفرح. تنظر إلى واقع الطوائف الحذرة بعضها من بعض، والمستسهلة الصراع والعودة إلى التناحر فتحزن. وتسأل: لماذا يمثّل الدين الحلقة الأضعف لإثارة الفتن بين الناس، المؤمنين منهم وغير المؤمنين أيضًا؟ لماذا تنجرّ الناس بسهولة كبرى إلى الحروب باسم الدين من دون أن ينسوا الإصرار على القول بأنّ لا علاقة للدين لا من قريب ولا من بعيد بما يحصل من مجازر وقتل وتهجير؟ ما الحدود الفاصلة ما بين الديانات والمنتمين إليها ممّن يرتكبون باسمها الفظائع؟
أليس لأنّ الكثير من الناطقين باسم الطوائف ينطقون عن الهوى؟ وبدلاً من أن يعملوا على التوعية وعلى بثّ قيم العدالة والمساواة بين الناس بصرف النظر عن انتماءاتهم، تراهم يفرّقون بينهم فيجعلونهم مراتب عليا ومراتب سفلى، ناجين وهالكين، مخلّصين ومقضيًّا عليهم. وبدلاً من أن يشترطوا العدل في تعزيز عصبيّاتهم فلا ينزلقون إلى التعصّب الأعمى، تراهم يغيّبون كلّ المبادئ السامية في دياناتهم في سبيل تعزيز مصالح ماسكي أمر طوائفهم الدنيويّة.
أليس لأنّ الناطقين باسم الطوائف يخلطون بين مفاهيم متضاربة أصلاً فيجعلونها متصالحة ومتماهية. هكذا، تختلط الكنيسة (الجماعة المؤمنة) بالطائفة، والأمّة بالقبيلة، والرابطة الدينيّة بالرابطة الدمويّة، والانتماء بالتقوقع. ثمّ يأتيك الحديث عن “العائلات الروحيّة” المتآخية والمتحابّة على مرّ العصور، وهي في الواقع أبعد ما يمكن عن أن تكون “روحيّة”. فالروح هجرها حين تحوّلت إلى عائلات طائفيّة تحتكر كلّ مَن يلد فيها وتسلبه حرّيّته في الانتماء إليها أو في هجرها. بالضبط كما يولد المرء في إحدى العائلات، ولا خيار له في تغيير اسم عائلته، هكذا يولد في طائفة لا حول ولا قوّة له في الانفصال عنها.
أمّا المطوّلات عن العيش المشترك والمصير الواحد الذي يجمع أبناء الطوائف كافّة، والتغنّي بالتعايش كأنّه ابتكار لم يسبقنا أحد إليه، فتحوّل إلى مجرّد إنشاء بات كثر يشبّهونه بالأسطوانة المملّة. وفي صراحة تامّة، طالما يروج تعبير “العيش المشترك” في الكنائس والمساجد والمجالس السياسيّة ووسائل الإعلام، فهذا يعني أنّ “العيش المشترك” في أزمة. عندما يبطل الكلام عن “العيش المشترك”، ويزيد الكلام عن “المواطَنة” التي تجمع كلّ الناس على قدم المساواة، ويرتفع شعار لا فضل لأحد على أحد إلاّ بما يقدّمه لبلاده، حينها نكون بدأنا السير في الدرب السليم.
من هنا، لم يبقَ جائزًا الحديث عن أن تضمن الأكثريّة الأقلّيّات (كم هو بغيض هذا التعبير). ولم يبقَ جائزًا الحديث عن أن تضمن طائفة ما طوائف أخرى. ولم يبقَ مقبولاً الحديث عن أن يضمن نظام طائفيّ أو مذهبيّ أو حزبيّ الوجود المسيحيّ أو غيره في أيّ بلد من البلدان. ولّى زمن الحمايات والوصايات والذّمم وكلّ ما شابه ذلك. ولا ضمانة موثوقة إلاّ المواطنة الحقيقيّة التي تجعل المساواة واقعًا معيوشًا.