أثناء حصار القسطنطينيّة واشتداد القتال على أسوارها، حكي أنّ أبناء المدينة كانوا مشغولين بالجدل حول “جنس الملائكة”. فنسوا، في غمرة تفكّرهم في مسائل الملائكة، الذود عن مدينتهم فـ”سقطت” بين أيدي الأتراك العثمانيّين. وأميل إلى اعتبار ما حدث “سقوطًا” للقسطنطينيّة لا “فتحًا”، فالانحطاط الفعليّ استمرّ في عالمنا العربيّ مع استمرار الحكم العثمانيّ لهذه البلاد.
أمّا اليوم، فما حالنا نحن القاطنين في هذه الديار المباركة؟ حالنا حال المحاصرين من أبناء القسطنطينيّة، نتلهّى بالجدل حول “جنس الملائكة”، ملائكتنا. نكاد أن نفقد فلسطين من البحر إلى النهر. أهلنا في سورية يُقتلون في حروب عبثيّة بمئات الآلاف، ويُهجّرون بالملايين. عراقنا تشرذم وتفتّت ما بين المذاهب والقوميّات وداعش. لبنان نخاف عليه وعلى أبنائه من قابل الايّام… نتقاتل بالنيابة عن أميركا وروسيا والسعوديّة وإيران وإسرائيل… نموت بلا جدوى عن سوانا، وسوانا ينعم بالرفاه ورغد العيش.
فبمَ نتلهّى؟ بخطاب أجوف يعلي من شأن حضارتنا، ونحن منذ قرون لم نساهم في الحضارة الحاضرة، بخطاب يحطّ من شأن حضارات الآخرين، فنقول، للتعويض وتبرير الذات، إنّنا حافظنا على الأخلاق، بينما أضاعها غيرنا. ونقول إنّنا حافظنا على الأسرة وقضى عليها الآخرون. ونقول إنّنا حافظنا على الدين بينما ضرب الإلحاد غيرنا… نتباهى بشهادة الزور هذه، ونحن نعرف معرفة اليقين أنّ ثمّة في الدنيا مَن يفوقوننا في مسائل الأخلاق والإيمان والحفاظ على الأسرة وحقوق الإنسان والحرّيّة والجهاد من أجل السلام والعدل.
بمَ نتلهّى؟ بالفتاوى التي تعنى بكلّ مسائل الحياة وتفاصيلها من الصعود إلى القمر إلى إفرازات الجسد الطبيعيّة. لساعات وساعات على الفضائيّات، ولكن على الأرضيّات أيضًا، وعلى المواقع الإلكترونيّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ يتحفوننا بفتاوى نخجل حتّى من الإشارة إلى مضامينها. ثمّ يأتيك الحديث عن الإعجاز العلميّ، الغرب يكتشف ويخترع ويصنع المدنيّة، وهناك مَن لا عمل له سوى البحث في الماضي عمّا يجعله يقول بتفوّقه على الغرب، من حيث إنّ ما اخترعه الغرب أو ما اكتشفه موجود عنده من قبل في كتبه وفي تراثه، من الدبّوس إلى القنبلة النوويّة كلّه تحدّث عنه كتابه منذ قرون عدّة… نعم، لا حجّة للعاجز إلاّ الإعجاز الإلهيّ.
بمَ نتلهّى؟ بخطاب داخليّ عقيم يعظّم من شأن الماضي وأبطاله، أجدادنا. فبدلاً من أن نكون “عصاميّين”، أي أن نسود بشرف أنفسنا لا بشرف آبائنا وجدودنا، نتحوّل إلى “عظاميّين”، نفاخر لا بأنفسنا، بل بصنائع آبائنا وأجدادنا. وإذا كان ثمّة صراعات بين هؤلاء الآباء والأجداد، فهي مستمرّة إلى اليوم وإلى الأبد ربّما، كأنّها حدثت البارحة عند غروب الشمس. وفي سياق العظاميّة أيضًا، يمكن الحديث عن أولئك الذين يفاخرون بأنّ أجدادهم الفينيقيّين اخترعوا الحرف، غافلين عن أنّ هذا الحرف هاجر منذ زمن غير يسير إلى بلاد الاغتراب إلى غير رجعة…
ثمّ يأتيك مَن يفاخر بأنّنا استطعنا أن نقضي على مشروع “إسرائيل الكبرى”، مشروع “أرضك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات” قد قضي عليه، معتبرًا هذا انتصارًا ساحقًا على العدو الصهيونيّ… لكن، مهلاً يا صديقي، كم إسرائيل يمكننا أن نحصي اليوم، وغدًا إلى مزيد، من إسرائيلات صغرى على قياس المذاهب والطوائف؟ سقطت إسرائيل الكبرى، نعم. لكن، في المقابل، سقطت سوريا الكبرى، وسقط “الوطن العربيّ”، وسقطت “الأمّة الإسلاميّة”. وعلى أنقاض هذه كلّها ستقوم كيانات مذهبيّة، طائفيّة، إتنيّة… إسرائيلات عدّة.
هذه حالنا، حال الواقفين على الأطلال نفاخر الدنيا بعظامنا… نعم، ستقتلنا عظامنا.