عندما كتب عالم النفس الفرد ادلر عن شعور النقص لم يميّز فرداً او جنساً أو حتى وطناً… بل جاوز بها المرئي واللامرئي حتّى عمّ الملموسات والمحسوسات معاً بتلك الجذوة المتأصّلة في أعماق كلّ كائن حي.
عقدة النقص التي تطارد الشاعر محمود درويش في ديوانه «محاولة رقم ٧» لا تنحدر الى هاوية الخنوع أو تلفظ أنفاسها في تهدّج إحساسه عند ازدحام الجراح في صدر الوطن… بل تستحيل سيوفاً للمجد في ثورة الرفض القاطع فنجده يصدح قائلاً في قصيدة «كأنّي أحبك» من الديوان:
«فأغمدتُ ريحاً بخاصرتي… كنتِ أنتِ الرياح… الجناح». إذاً، كالمتأرجح بين الرياح والجناح يبثُّ ثورته ويعلن شوقه المكبوت في ظلّ الصراع الناشئ من عقدة النقص لوطنه الذي جاهد مليّاً لتحريره بالكلمة.
البحث عن الهويّة
في قصيدة «النزول من الكرمل» تُصلب جميع الأديان في خاطره لتختصر دروبها جميعاً نحو فلسطين، وتتعارك مخيّلته مع عشقه المدفون في غيظٍ مستتر ينبع من العقدة التي تنبش أظافرها في حدائق روحه. ثم ترتحل قصائد فيها ثورة… وفيها ثمرة شهيّة لحبٍّ محرّم مبتور، يتمايل بين الضفة والضفّة الأخرى.
من هنا نلحّ في التساؤل، هل يبحث محمود درويش عن هوّيته كشاعر أو كفلسطيني فقدَ وطنه أو الاثنين معاً؟ لقد جاب العالم بحثاً عن الوطن وجال الطبيعة بجلالها وأدغالها بحثاً عن الشعر ومَزجهما معاً في حسٍّ فريد ينتقد السلطة والتآمر والمؤامرة التي نسجت خيوطها في عالم عربي متزعزع الأوصال، تحكمه الدراهم، حيث ترنّم مختالاً في قصيدة «الرمادي»:
«كان لي بذرة قمحٍ في يدٍ محترقة… واحترقت… وليَ الآن شتاءٌ من دمٍ يمتصّه الرمل، ويُستخرجُ مازوتاً… وأُستدعى إلى الحرب لكي يصبح سعر النفط أعلى».
شعور الشاعر بالنقص يمدّه بقوّة حديديّة تقهرُ الرماد وتتشرّب بروح السخرية المريرة فيقول: «هذا هو العرس الدي لا ينتهي… في ساحةٍ لا تنتهي… في ليلةٍ لا تنتهي… هذا هو العرسُ الفلسطينيُّ… لا يصلُ الحبيبُ الى الحبيب…إلّا شهيداً أو شريداً…».
الفيضان الهائل
في ديوانه «محاولة رقم ٧»، تصبّبت قصائد محمود درويش على جبين الشعر عرقاً بارداً لليأس والأمل، وتدحرج احساسه في منحدرٍ من الخيال الهذياني الأرجواني. فيفيضُ لازورداً متّكئاً على خاصرة الوجد حيث غنّى بالقلم في قصيدة «النهر غريب وأنت حبيبي»، مرتّلاً: «يا أيها الجسم الذي يختصرُ الأرض، ويا أيّتها الأرض التي تأخذ شكل الجسد الروحي، كوني لأكونْ… حاولي أن ترسميني قمراً… ينحدرُ الليلُ إلى الغابات خيلاً… حاولي أن ترسميني حجراً…».
في تكوّره بين عشقه لفلسطين ورفضه لضياعها يحسّ الشاعر بالنقص الذي يتدنّى معه لليأس ثمّ يغمر كيانه الشعور بالتميّز لأنّه ابن الأرض الصلبة التي لم يتلطّخ جبينها بالعار على رغم وقع أقدام المحتل على جسدها… بل نزفت عنفواناً لرقدة تعقبها صحوة خالدة تعيد أمجادها وتحرق ما تبقّى من أعقاب الضمائر العربية الميتة.
«دمهم أمامي… يسكنُ اليوم المجاور… صار جسمي وردةً في موتهم… وذبلت في اليوم الذي سبق الرصاصة… وازدهرت غداةَ أكملت الرصاصةُ جثّتي وجمعتُ صوتي كلّهُ لأكون أهدأَ من دمٍ غطّى دمي…».
هكذا غصّ الشاعر بدمه كما غصّ قلمه بنزيف المحاولة، محاولاً تجاوز العقدة بارتقاء أحاسيسه لوطنية عاصفة. وقلّم جذوع الألم بالقلم فلم يرتوِ شغفه إلا قليلاً… والقليلُ في سريرة محمود درويش هو الفيضان الهائل.
نسرين بلوط
الجمهورية