في ما يلي قسم من الفصل الرابع من كتاب “الحركة والسكون – الإعلام والقضاء” لمؤلفه رمزي ج. النجار، والصادر حديثا عن “دار نوفل”. يتناول الكتاب ما يعتبره “العلاقة العضوية والملتحمة بين القضاء والإعلام” رغم أنها “ليست بدهية لدى الكثيرين منا”، ويحدد مهمته بأنها “تمكين القضاء من احتراف التواصل الإعلامي والاستراتيجي”.
حتّى يومنا هذا، يُعاني القضاء الكثير من ما يسمّيه “تطفّل الإعلام” وتدخّله وضغوطاته باسم الرأي العام والبحث عن الحقيقة مما يتعارضُ مع طبيعة القضاء بقدر ما يُبرّر صراع الحركة مع السكون.
يحتارُ الإعلام أيضًا بتعامله مع القضاء الذي يصدّه ولا يفتح امامه الأبواب كما يتمنّى الصحافي وكما هي شهيّة القارئ أو المشاهد. هذا الجزء الأخير من فصلنا (الرابع) نُخصّصه لاستعراض المبادئ المُثلى التي تهدف إلى مصالحة موضوعيّة وعادلة تحمي القضاء من مبالغات الإعلام بقدر ما تحاول منح الإعلام إجازته لتقصّي الحقيقة وإيصالها إلى الرأي العام.
جوهر الصعوبة هو في موضوع التغطية الإعلامية المباشرة أو المسجلّة والتي تشكّل حساسيّةً جديّة لدى المسؤولين في القضاء، ذلك لأن إدخال الكاميرا الفوتوغرافية أو التلفزيونية إلى حرم المحكمة لا يزال ممنوعًا بنسبة عالية في غالبية البلدان (هذا ما يُفسّر وجود رسّامين ومتخصّصين داخل المحكمة، ينقلون على لوحات رسوم المحاكمة المرسومة يدويًّا، وأبطالها من مُتّهم، ومدّعٍ وقضاة وشهود). ومع انفتاح الإعلام الجماهيري وغزوة شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت التكنولوجيا قادرة على تحدّي هذا المنع وخرقه بلا صعوبة.
استنادًا على هذه الإشكالية يستوعب القضاء حاليًا ضرورة أن يجد المعادلة الإيجابيّة في تعاطيه مع الإعلام بحيث يُعيد النظر في صمته وطبيعة وَلَعِهِ بالسكون لكي ينفتح ضمن حدود على الشفافية الإعلامية. ولكي يتمّ ذلك بنجاح، ثمة حاجة ملحّة لتحديد الضوابط الأخلاقيّة والسلوكيات المهنية التي تؤمّن للقضاء حماية مساره بقدر ما تبادل الإعلام بشفافية دنيا كافية لإستنباط الترياق الشافي لضبط التواصل شرط ألا يُسبّب قَمْعه، ولتواصل القضاء بلا تعريض حصافته وسعيه لإحقاق الحقّ والعدالة.
يعتبر القُضاة عمومًا أن الإعلام شرّ لا بد منه ويُبالغ البعض منهم فينسبون إليه تأثيرًا سلبيًا معرقلًا لحسن سير العدالة. من وحي هذه الاعتبارات طوّر الأميركيون حلقات دراسية خاصة بالقُضاة لإزالة هذه الأفكار المُسبقة ولإقناعهم بضرورة التفاعل مع الإعلام (مثال ذلك معهد إدارة المحاكم في المركز الوطني الأميركي (Court Management of the National Center for State Courts).
في انكلترا، يُصدر مجلس القضاء التنفيذي دليلًا إعلاميًا دوريًا ويضعه بتصرّف الجمهور لكي يُفصّل فيه نصائح وإرشادات عملية لتعاطي الإعلام معالقضاء.
في الأرجنتين، بدأت جمعية الحقوق المدنية الأرجنتينية مشروعًا في العام 2008 تجمع فيه أفضل الممارسات التي حدثت بين الإعلام من جهة، والقضاء من جهةٍ أخرى، وذلك بهدف إرساء نماذج عملية لتحسين العلاقة بين الطرفين.
يتميّز هذا الدليل الصادر في الأرجنتين بتنوّعه في معالجة القضايا القانونيّة المتعدّدة ليُحدّد شروط حقّ الحصول على المعلومات، وبالتالي حقوق الشفافيّة بالتناغم التام مع حقوق القضاء بالحفاظ على سريّة مراحل عديدة من مجراه حفاظًا على مسار العدالة وإحقاق الحقّ.
في غالبية البلدان يتهّم الإعلام القضاء بتهمة مشتركة هي البطء في الإجراءات واستغراق الزمن الطويل للوصول إلى نهايات أو أحكام ناجزة. لذلك يتحتّم على القضاء الانفتاح على الإعلام لتزويدِهِ بكافّة الإحصاءات وعدد الدعاوى المُنجزة لكي يثبت خطأ هذه المقولة التي قد تكون نتيجة أفكار مُسبقة لا تعكس حقيقة إنتاجيّة القضاء. هذا النوع من الشفافيّة الإعلاميّة لا يُعرقل القضاء بل يحميه ويُدافع عن صورته ويُساعده في تغيير الصورة النمطية الظالمة، والأهمّ من ذلك انه يكسر الحلقة المُفرغة التي يدور في وسطها اتهام الإعلام وصمت القضاء.
من منظارٍ آخر، لا يمنع صمت القضاء ولا سكونه من أن يكون متحركًا في الإعلام والتواصل لكي يفسح دوريًا عن إصلاحاته الداخلية وعن أساليب الحوكمة والإنجازيّة التي يعتمدها ويطوّرها بفضل التكنولوجيا والُمكْنَنَة.
لن يغيب عن بالنا أن نذكر أهميّة الإعلام للقضاء لكي يتعاونا معًا في مقاربة كافّة مشكلات المجتمع المتعلقة بالصحة العامة، التربية، الخدمات، حقّ السكن، الغلاء وغيرها من الملفات حيث أن القضاء القادر على إظهار شفافيته في هذه المجالات سيكون حتمًا خير حليف للإعلام بقدر ما يُحصّن صورته وسمعته لدى الجمهور.
بيت القصيد والأكثر أهميّة في ضرورة مصالحة الإعلام مع القضاء تكمُن في ضرورة تفهّم توقّعات الإعلام من القضاء، للتواصل الدائم حول شرح القوانين والتحذير من الخروج عنها لكي يبقى المواطن كما المواطنة على علمٍ دائم بخطورة المخالفة وبالكلفة الباهظة للخروج عن القانون. هذه الكلفة هي ماديّة كما هي شهورٌ وسنين من عمر من سيُخالف وسيُعاقب: “دولة القانون واجبها أن تكون دولةً شفافة في الإعلام والتواصل”. دليلٌ على ما سبق أن نظام الشفافيّة الدولي يعتبر الإعلام دعامةً من دعائم نجاحه ومبرّر وجوده. من جهة أخرى، كافّة المؤشرات العالمية الخاصة بالحَوكمة تُلزم النظام القضائي بتطبيق مبدأ دولة القانون التي يتحتّم عليها إعلام مواطنيها، والإنفتاح على تثقيفهم مواطنيًا وقانونيًا.
ثمّة من يُخالفون هذه المبادئ التي نقترحها، ويبالغون إلى درجة اعتبار أن القاضي ليس مُلزمًا بالإجابة عن أسئلة الإعلام ويُطالبون بأن يُمنح حقّ الصمت وعدم التعاطي مع الصحافة والإعلام. هذا هو الموقف الخاطئ الذي أثبت عدم جدواه شرط أننا لا نعني عدم ضبط الإعلام والحدّ من شهيته في الضغط للحصول على معلومات بدون تقدير العواقب. لحلّ هذه المعضلة، نستكمل المبادئ المُثلى التي تحفظ للطرفين جوهر حقوقهما إنطلاقًا من صميم الديموقراطية حيث أن كافّة السلطات تستمد وجودها من إرادة الشعب.
استكمالًا لهذه المبادئ المُثلى نذكر الاقتراحات التالية:
– ضرورة التثقيف والحوار ما بين الإعلاميين، خصوصًا من هم في مركز المسؤوليّة كرؤساء ومدراء التحرير، في منشوراتهم ووسائلهم، ومع المسؤولين في الهيئة القضائية لكي يتعاون الطرفان على استيعاب كافّة المشاكل.
– التواصل الإرادي من قبل القضاء، وعدم الاكتفاء بردود الفعل هو أيضًا امرٌ مثالي لتحقيق الوئام بين السلطتين.
– تحضير موادّ إعلاميّة من قبل القضاء لتوضع بتصرّف الإعلام كي لا يشعر بالتعتيم وغياب الشفافية. وبما أن واضع المادة هو القضاء، فليس هناك من خطر على المسّ بالإجراءات القضائية، لذا بإمكانهم نشر الحدّ الأدنى مقارنةً مع صمتٍ مُطبق يُسبّب تغذية التباعد ويبرّر اتّهام الإعلام للقضاء بالصمت والسكون.
– التعاضد مع مؤسّسات إعلامية بهدف قضايا نبيلة ترتبط بحقّ المواطن في أن يعرف مُسبقًا بالقوانين وبالغرامات وبالعقوبات كي يُحصّن سلوكه المواطني ولكي يربح القضاء ثقة الشعب بفضل الإعلام.
من أبرز محاور التواصل الضروريّة مع الشعب، أن ينفتح القضاء أيضًا، عبر الإعلام لكي يشرح الثوابت التالية:
– الشرح للمواطن عن أهميّة الدور المُسند إلى المحاكم بهدف الحفاظ على الحقوق العامة والحقوق الخاصة.
– الشرح للمواطن عن أهميّة دور القضاء في الحفاظ على الأمن وسلامة المواطن.
– الشرح للمواطن عن آليّة عمل القضاء واختصاص كلّ محكمة.
– الشرح للمواطن كيف هي آليّة التدرّج في مسار المحاكمات من البداية وحتّى التميّيز.
– الشرح للإعلاميين وللصحافيين عن خاصيّة العمل القضائيّ وحتميّة الحفاظ على الحدّالأدنى من سريّته وعدم تلوثه بالانكشاف على الشائعات والتفسيرات الخاطئة التي تؤذي حصافته وسعيه نحو تحقيق الحقّ وتعميم العدالة.
– حقّ الصحافة والإعلام بالكتابة في مواضيع القضاء وفي ممارسة دور شبكة الأمان التي تُحاسب القضاء كما تُحاسب السلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة.
– حقّ الصحافة والإعلام بالتواصل والحوار مع مسؤولين معينين من القضاء للتنسيق وللإجابة عن الأسئلة التي تهمّ الشعب والتي لا مصلحة في إعطاء الانطباع أنّها مخفية وغير شفافة.
– التغطية الإعلامية المبرّرة قادرة أن تكون عاملًا ايجابيًا تستخدمه العدالة ويركن إليه القضاء للقيام بوظيفته على اكمل وجه.
– إضاءة الإعلام على بعض الشواذات في تحقيق العدالة يُساعد القضاء لإجراء الإصلاح المُستدام في أدائه وكشف المتخاذلين في تطبيق القانون واحترام المسار القضائيّ.
في خلاصة هذه المبادئ لا بدّ لنا من التذكير بأن الإعلام والتواصل ماردٌ خرج من القمقم ولم يعد بالإمكان ترويضه وفرض القيود الكاملة على حركته، فهو أبرز صناعة في القرن الحالي، وله التأثير على كيف يفكّر الناس، وكيف يتصرّف السياسيون، بقدر ما يقرّر أيضًا أداء القضاء وجدوى الأنظمة التربويّة وجودة البنية التحتية وسياسات الصحّة والغذاء وكافّة المحاور الحيوية في حياة الإنسان، لذلك من الحتمي بقدر ما هو من الطبيعي أن يجد القضاء علاقةً متناغمة وايجابيّة مع الإعلام كي يكون من حلفائه لا من اعدائه، شرط ألا يغيب عن بالنا أن ذلك لا يعني الخضوع للإعلام واستسلام القضاء لطغيان التواصل، ما نعنيه هو وسطٌ ذهبي بين متنافرين يجمع بينهما ما ورد في فصلنا السابق في ثنائيّة “الحقّ والحقيقة” لذلك ما يجمعهما، يجب أن يكون دائمًا أكثر ممّا يفرقهما.
النهار