كتب فرج عبجي في النهار في 29 كانون الاول 2021
الليرة اللبنانية، التي سحرت المنطقة العربية والعالم بجمالها ورونقها وقدرتها الشرائية، منذ لحظة ولادتها في آب 1963، خَفَتَ بريقها في العام 2021، وأصبحت بلا فتنة. مشؤومة هذه الليرة، التي حسدها العالم على سطوع نجمها سريعاً في المنطقة، لأنها تعيش اليوم أصعب لحظات عمرها مع كثير من الوجع والألم والحسرة على مجدٍ خسرته بعد أعوام من البحبوحة والاستقرار والتقدّم منحتها لأهل لبنان.
انطلاقتها في شبابها لا يُمكن حصرها بأسطر، وهي التي كانت مفعمة بالنشاط، تبعث في الاقتصاد والتجارة والسياحة اللبنانية روحاً فريدة، وتستلهم نشاط الأجداد من أبناء فينيقيا وتجّارها. لقد شكّلت في تلك الأيام قبلة الشرق والغرب، وتحوّلت قوتها إلى مرجع لكلّ الرساميل العربيّة والدوليّة، بل يمكننا القول إنّها لم تقلَّ بسمعتها المميّزة عن مشاهير لبنان والعالم، لتبلغ مجدها الأكبر في عهد الرئيس كميل شمعون، حين أصبحت تجسيداً للمقولة الشهيرة “الليرة بتحكي”.
طال هذا الزمن الجميل، وقالت الليرة كلمتها عند كلّ منعطف تاريخيّ على مدى الأعوام التي سبقت الحرب الأهلية، وأعانت لبنان كي يدخل إلى المحافل الدولية والأسواق العالمية. نجحت هذه الليرة العربية في أن تكون ركيزة ورباطاً بين الشرق بالغرب، وكان لرقصتها وصعودها وتمايلها تأثير في السوق اللبنانية والعربية لا يخفى.
عاشت ليرتنا قصصَ عشق مع كلّ الجنسيات، وكانت سبباً رئيسيّاً بتحوّل لبنان إلى سويسرا الشرق وإلى كازينو المنطقة. استقطبت بقروشها أهمّ رجال الأعمال من كلّ حدبٍ وصوب؛ وبقدرتها الشرائيّة جذبت السيّاح من الشرق والغرب، فتحوّل شتاء لبنان إلى محجّ لعشّاق الثلج والدفء، وصَيفه بات مقصداً لكلّ مَن يبحث عن الراحة وكرم الضيافة.
ظلّت الليرة متماسكة وحاضنة لجميع اللبنانيين، فقراء وأغنياء، فحافظت منذ البداية على سعر صرفها في مقابل الدولار، وبقي الأخير يُساوي 3،22 و3،92 ليرات في آذار من العام 1981. لقد تماسكت الليرة 6 أعوام على رغم ضراوة الحرب والدّمار الذي مزّق الوطن.بعد هذا العام، وتحديداً خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بدأ سحر الليرة يتراجع شيئاً فشيئاً، حتى بلغ سعر صرفها 5 ليرات في مقابل الدولار الأميركي الواحد.
في القسم الثاني من الحرب، منذ منتصف العام 1983 حتى العام 1990، انهار سعر صرف الليرة في مقابل الدولار على نحو دراماتيكي، وباتت تعيش حَال ضياع وعدم ثبات بسبب كثرة الصدمات التي أصابتها، من الاجتياح الإسرائيلي والمعارك الضارية، التي وقعت في المناطق، ومزّقت كلّ ما حاكته الليرة من ثبات واستقرار في أيام الزمن الجميل. وبلغ الدولار في تلك المرحلة أكثر من 500 ليرة، وصولاً إلى ذروة تلك الحقبة مع نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، حين أصبح سعر الصّرف في مقابل الدولار 880 ليرة.
على رغم حالة الطلاق، التي عاشتها بعد انتهاء الحرب وسكوت المدفع، لم تتحسّن الليرة، بل ساءت حالة أميرة الشرق أكثر، وبلغت ذروة نكستها في العام 1992 حين وصل سعر صرف الليرة إلى 2880 في مقابل الدولار الواحد.
أدّت حالات الإنعاش، التي انصبّت على جسد الليرة، الذي مزّقته الحروب والأزمات، إلى تعافيها بشكل نسبيّ، لكنها لم تستعد مجدها السابق، بل تراجع سعر صرفها إلى 1900 ليرة في مقابل الدولار.
لكن الليرة الحائرة بأمرها وجدت استقرارها في العام 1999 عندما اتُّخذ قرار ضبط سعر الصّرف عند 1507.5 ليرات للدولار، وظلّ الاستقرار رفيقها حتى 17 تشرين الاول من العام 2019.
الليرة، التي عاشت استقراراً عميقاً لـ20 عاماً تقريباً، اهتزّ عرشها، وساءت حالتها بشكل كبير، فتحوّلت من عشيقة لكلّ لبناني، كان يُجاهر بها أمام العالم، إلى طليقة، بعدما أنكرها، وبات يرفض التعامل بها، مفضّلاً الدولار عليها.
ومنذ ثورة 17 تشرين، بدأت الليرة تخسر رونقها، الذي كان يتغنّى به كلّ لبناني، وتدنّت قيمتها الشرائيّة، وفقد اللبناني امتيازات عدّة كانت تسهّلها له هذه العملة الوطنيّة. لم تعد الليرة تشتري الخبز للفقير، والمازوت للبردان، والدواء للمريض. أصبحت الليرة وحيدة، لا تجد مَن يؤاسيها أمام مصائب الزمن وناسه. دخلت الليرة في نفق عميق بجسدها، الذي أنهكته الحروب والسياسات المالية غير المدروسة، والهدر والفساد؛ فقد أفسد صيتها، وباتت عشيقة من دون حبيبها، وسحرُها انقلب عليها، ولم تجد إلى النّور سبيلاً. وها هي اليوم تترنّح ما بين السيّىء والأسوأ، وتتناتشها النزاعات والاتهامات المتبادلة. وباتت الليرة في غرفة الإنعاش تنتظر فارسها القادر على أن يُعيدها إلى مجدها السابق، ويُعيد اعتبارها المحلّيّ والعالميّ، ويُعيد ثقة المجتمع الدوليّ إليها بعدما تعرّضت لخيانة كبيرة من أقرب الناس إليها، كي نعود ونقول: “رجعت الليرة تحكي”.
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه