بعد أيامٍ قليلة، سيطلّ علينا عيد البشارة حاملاً معه الفرح والإحتفال بالحياة ضمن زمن الصوم الكبير. عيد البشارة هو عيد الكلمة المتجسّد، وهو عيد مريم الممتلئة نعمة، التي قبلت البشارة من السماء.
هو عيد اللقاء بين الله والانسان، عيد الحقيقة التي هي في قلب بشارة السيد المسيح المتجسد في إنجيله. لقد أصبح الله انساناً لكي تصبح أنت الانسان إلهاً. هو عيد كل طفل ومولود، هو عيدنا نحن الذين وُلِدنا على صورة الله ومثاله، تجسد الله وأخذ طبيعتنا لنتأله نحن ونصبح على صورته. هكذا فإن البشارة بيسوع الطفل نعمة لمريم التي أصبحت ممتلئة نعمة، ونعمة لنا جميعاً وخلاصاً.
فالله احترم حرية الانسان فاستأذن مريم للدخول إلى عالمها، ومنها إلى عالمنا. إنّ السماء والأرض في انتظار هذا الجواب في سموٍّ لا يمكن وصفه من التواصل المتعالي. كما نستطيع أن نقول أن الكلمة المختبئة تنتظر جواب مريم لتعطي فوراً تنفيذ المشروع الإلهي من الآب. هو الحياة، أخذ طبيعتنا البشرية وأراد أن يدخل على حياتنا، أراد أن يقدّس الحياة، وأن يرفع طبيعتنا الملوّثة، أراد أن يعطي معنىً وقيمة لحياتنا.
أراد أن يذكرنا أن حياتنا هبة من الله، وأنّ أجمل وأغلى ما وهب للانسان هي نعمة الحياة. ففي عيد الحياة المصادف في 25 آذار، يوم عيد البشارة بالطفل الإلهي، مدعوون لننفتح على الحياة وحبّ الحياة، هكذا نحقق غايتنا ووجودنا. فالانسان خلق على صورة الله ومثاله، ومدعوّ ليحقق ذاته بقبول عطيّة الحياة، فينفتح على الحياة وخالقها، يحترم من خلق الحياة وهو الله، يحترم أخاه الانسان، ويحترم أيضاً البيئة المحيطة به. من هنا دعوتنا الدفاع عن الحياة، الحياة البشرية كما الحياة بشكل عام.
فهناك التعديات الكبيرة التي تمس الحياة البشرية، فثمة عوامل يجب اتخاذها بعين الاعتبار: في الخليقة نلحظ أزمة عميقة في مجال الثقافة، ومجتمع معقّد يمسي فيه الافراد والأزواج والعائلات وحدهم غالباً في مواجهة معضلاتهم. وهناك أيضاً الفقر والجوع حيث السعي للبقاء على قيد الحياة، والضغوط الممارسة على النساء، تجعل الخيارات الداعمة للحياة وحمايتها على جانب من المشقة بل من البطولة. وهناك الكثير من وسائل لا تُعد ولا تحصى فبدلاً من الدفاع عن الانسان وعن الحياة نراها ضد الحياة ومنها الاجهاض وحبوب منع الحبل. “أما أنا فجئت لتكون لهم الحياة، بل ملء الحياة” (يو 10:10). الحقوق الانسانية يجب ان تكون مُصانة. فعلى صورة الله صنع الله الانسان (تك 9: 6).
دعوتنا جميعاً أن نرفع الصوت عالياً، فكل انسان هو كائن فريد. إن زمن الصوم الذي نعيشه اليوم ليس إلا ضرورة لحياة روحية أفضل. من هنا الدعوة لنفتّش عن القليل من الهدوء في حياتنا، لكي نستطيع أن نفكّر، أن نتأمل، أن نصلّي، وأن نأخذ قراراً. أمام انشغالاتنا الكثيرة، وضجة أحداثنا والاغراءات التي ننجذب إليها من خلال وسائل الاتصال الكثيرة الانتشار اليوم، كل هذا يورّط سلامنا الداخليّ.
دعونا نُصغي لكلام البابا القديس يوحنا بولس الثاني في المحافظة على القليل من الوقت، وتحديداً في المساء، لنصلّي، لنتأمل، لنقرأ صفحة من الانجيل، أو مقطع من سيرة القديسين، لنخلق مساحة من الصحراء والهدوء، فهو ضروري لحياتنا الروحية. فالصوم باب للحياة، معه ننفتح على الله وعلى القريب وعلى الذات. فالصوم ليس فقط في الانقطاع عن تناول الطعام، بل هو في الرصانة والاتزان، كما هناك صوم التعاضد مع الفقراء، فمن لا يذكر كلمات النبي أشعيا القائل باسم الرب: “فالصوم الذي أريده، أن تُحلّ قيود الظلم، وتُفك مرابط النير ويُطلق المنسحقون أحراراً، ويُنزع كلُّ نير عنهم، أن تفرِش للجائع خبزك وتُدخل المسكين الطريد بيتك، أن ترى العريان فتكسوه ولا تتهرب من مساعدة قريبك” (أش 58: 6-7).
هذا الصوم هو رفض “لعقلية الاستهلاك” في عالم جعل من الفائض وغير اللازم أحد أولوياته وأهم نشاطاته. وهناك أيضاً الصوم عن الكلام الشرير كما يذّكرنا القديس بولس: “لا تخرج كلمة شرّ من أفواهكم، بل كل كلمة صالحة للبنيان عند الحاجة وتفيد السامعين” (أف 4: 29). فالحياة مقدسة، والذي قدسها هو خالقها، تجسّد ليرفعها، أعطانا وسائل كثيرة ومنها الصوم فلندافع عن الحياة حاملين راية الانسان، منشدين السلام في وجه كل انقسام وحروب، مطلقين نداء الوحدة.
النشرة