وو داوجي لم يمت.
ذات مرة، وقد تقدّم في السن، رسم في القصر.
رائع كان المشهد
الذي رسمه على الحائط.
حتى الإمبراطور أعجب به.
عندها عقد وو داوجي العزم
ودخل الصورة:
سار الطريق صاعدًا
واختفى عن الأنظار
في ضباب الجبال.
لم يرَه أحد ثانية.
أسطورة صينية
وفقًا لتقويم سنوي صيني قديم، رسم لي يي (القرن الثالث ق. م.) التنانين والعنقاء فقط من دون أحداق، وإلا لكانوا طاروا منصرفين أحياء. قد يظن أحدهم للوهلة الأولى، أن هذه إحدى النوادر التي أطلقها زيوكسيس، الرسام اليوناني في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، الذي رسم، كما هو معروف، عناقيد عنب تحاكي الواقع بحيث أنه حتى الطيور قد خدعت بها: سعت الى الرسوم وأخذت تنقرعناقيد العنب المصوّرة. ومع ذلك، فإن دراسة أكثر شمولاً للحكايات التاريخية الفنية تكشف عن اختلاف جوهري بين وجهتي النظر الفنية: بالنسبة للرسام الأوروبي وجمهوره، فإن الكمال الفني يعني خداع المُشاهد بنجاح – أمّا الرسام الصيني والمعجبون به فيرون الكمال الفني المنشود، والمستحيل المنال في إنعاش الصورة وإعادة الحياة اليها. حكاية زيوكسيس تعبر عن وجهة النظر التي سادت بالفعل في الفن الأوروبي حتى مطلع القرن العشرين والمعروفة تحت مصطلح الخداعية، في حين يخفي تاريخ الرسام الصيني المبدأ الفني المحدِّد للرسم الشرقي، الذي نسميه مفهوم الفن الإبداعي الأنطولوجي (الوجودي)، رغم أن مماثله في الرسم الأوروبي والأمريكي الحديث معروف أيضًا بأسماء أخرى (مبدأ الإبداعية والإنتاجية والفن المستقل). لا تريد اللوحة أن تنظر الى الرؤية الأخيرة كتقليد، بل كإبداع مستقل. بتعبير أدق، لا تبرز بصفة خاصة طبيعة النسخة المطابقة، ولكن طابع الخلق.
فيما يتعلق بعيون التنانين المرسومة، ليس فقط الحكاية نفسها مفيدة، ولكن أيضًا أصلها: في حين أن المؤرخين الأوروبيين سجلوا القليل نسبيًا عن الرسم وحتى أقل عن تاريخ فن الرسم كمؤسسة، فإن أقدم الحوليات في الصين، والمجلدات الفردية للخمسة والعشرين تأريخا للأسر الحاكمة، حتى القرن العشرين، تضمنت وثائق مفصلة تمامًا عن رسامي البلاط ، حول الزخارف الخلابة للقصور، المعابد ورساميها، مدارس الرسم والأكاديميات والمفاهيم الفنية. منذ نهاية القرن الخامس، بقي هناك تاريخ كامل ومنهجي للرسم، حيث لخص المؤلف شي هوا لوحة القرون الماضية ومبادئها الجمالية. يحتوي هذا العمل أيضًا على “القواعد الست” الشهيرة. ومنذ ذلك الحين، استمرت سلسلة الأعمال التاريخية في الرسم.
قد يبدو الاهتمام الكبير بالرسم غريبًا بالنسبة لنا، ولكن يمكن تفسيره من حقيقة أن “فن المرقاش” – الذي تضمن أساسًا الشعر والخط والرسم بالدرجة الثانية – له أهمية استثنائية في الصين. كان هناك عدد لا يستهان به من الحكام ورجال الدولة الذائعي الصيت من ذوي الطموحات في حقول الرسم والشعر والخط، وتعامل الحكام بشكل عام مع قضايا الشعر والرسم باليقظة والحذر كما فعل أمراء وباباوات عصر النهضة في أوروبا. لذلك يمكننا أن نقول بحق أن فن المِرقاش قد لعب دورًا حاسمًا في الثقافة والمجتمع الصيني.
إذا أردنا التعرف على الرسم الصيني، فعلينا أن ننطلق من واقع أن الناس في أوروبا قد نشأوا في ثقافة مختلفة، وأن فكرهم تغذى من تقاليد وعادات أخرى، وأن عيونهم اعتادت على فن مختلف. لا يجوز لنا ان نقطع النظر عن هذا الاختلاف أبدًا، ونحافظ على مسافة. ومع ذلك، نحاول الاقتراب من الفن الصيني من خلال التعرف على جذور الرؤية الشرقية، وتلقفها ومحاولة النظر إلى الصورة من وجهة نظر “القواعد الست” الصينية.
موضوعنا ليس الفن الصيني كلّه، الّلهم إلاّ الرسم، أي كافة فروع الفن المدرجة في هذا المصطلح الجمعي في الصين. يفتقر فن الرسم الصيني على وجه التحديد إلى تلك الأساليب والتقنيات التي تعتبر في أوروبا فحسب فروعًا تصويرية أو تخطيطية… يضم فن الرسم في الصين اللوحة ألأحادية اللون أو الرسم بالحبر على ورق أو نسيج، والنقش على الحائط، والصورة المنسوخة، وأيضًا فن الخط أو الكتابة بالمرقاش، وأخيرًا بعض الأشكال المشابهة للوحة: الصورة المنسوجة والمطرزة، “زهرة النافذة” (الصورة الظلية أو المقصوصة) للفن الشعبي، قناع المسرح وكل أشكال الرسم الزخرفي. جميعها تشكل فرعًا ممثلا للفن الصيني، ذلك الفَرع داخل نطاق الفن التشكيلي الذي قُدّر في الصين خير قدْر منذ آلاف السنين بعد الأدب والشعر، والذي قدّم في الوقت نفسه أهم مساهمة للروح الصينية في ثقافة الشرق الأقصى العظيمة. فبالإضافة إلى اليابان وكوريا وفيتنام، التي استقت فنها التصويري من الصين، تلقت التيبت وآسيا الوسطى أيضًا دوافع من هناك، على سبيل المثال لا الحصر بصفتها حاملة لأعظم الثقافات المستقلة … تشكل التأثيرات بطبيعة الحال شبكة من العلاقات المعقدة والمتبادلة في ثقافة الشرق الأقصى. فن الرسم الصيني أيضًا تلقى موادا وإلهامًا من جهات عديدة – بخاصة من الهند بواسطة آسيا الوسطى -، مع ذلك تأتي الصورة بالمقام الأول في الفن التشكيلي بالصين، تماما كالهندسة المعمارية وفن النحت في الهند، والحفر على الخشب وفن البضاعة الإستهلاكية في اليابان.
في أوروبا، لم يُعرف الحبر الصيني بلونه المميّز إلاّ في القرن السابع عشر. وبتنا نعرف اليوم، أن الألوان الزاهية قد استعملت في الصين قبل الحبر. خلال الحفريات في شانغجا، تم العثور على نص سحري يعود الى القرن الثالث قبل الميلاد، خُطّ على حرير بمِرقاش باللون الأسود والأزرق والقرمزي والأرجواني. ليس هناك شك في أن الحبر استخدم بالفعل على نطاق واسع في عهد هان. عالم الآثار والعلاّمة أوريل شتاين عثر على ألواح خشبية على طول الجدارالفاصل الصيني القديم في مقاطعة كانزو، كتبت عليها بيانات وتقارير بالحبر والمرقاش. ويرقى أقدم التسجيلات الى العام 98 ق. م.
يشبه الموقف المجتمعي لفن الرسم الصيني في الظاهر فقط موضع الرسم في العصور الوسطى في أوروبا. هناك العديد من التماثلات: كل من فن الرسم الصيني والأوروبي اتّصف بطابع ديني، سواء تعلق الأمر بزخرفة الكنائس أو تصوير الرموز والكتب المقدسة. كان الرسامون في قسم كبير منهم فنانين محترفين، وأحيانًا رهبانا. وقد تم تدريبهم – كما جرت العادة سواء في الصين أو أوروبا – في مشغل الفنان خلال مدة تلمذة معيّنة؛ حتى المحسوبية لم تكن غريبة في الصين …
غالبًا ما يتغافل تاريخ الفن الغربي عن حقيقة أنه كان هناك في الصين فن تصويري أقل مرتبة قد لعب دورًا مهمًا جدًا في المجتمع. نذكر منها رسوم العام الجديد وكذلك صور الأجداد والنقوش على الحائط في المعابد والكتب الشعبية المصورة. ومما لا شك أن اللوحات الأدبية ليست متفوقة جماليا فحسب، بل طورت ونشرت الأشكال الاجتماعية للنهج الفني.
في الصين، لم يكن هناك قط انقسام اجتماعي صارخ بين طبقة الموظفين وجماهير الفلاحين: كانت علاقتهما المتبادلة قائمة على نظام أبوي غريب ومفتوح. بعبارة أدقّ، على الرغم من أن امتيازات العلماء والموظفين (الأشراف المُلاّك والوزراء) كانت مضمونة من خلال أوامر إدارية صارمة، على سبيل المثال عن طريق حظر الزواج من أبناء الشعب، تلتها في التسلسل الهرمي الاجتماعي للحياة العملية طبقة الفلاحين، إذ استطاع أبناؤهم – على الأقل من حيث المبدأ – تبؤّء مراكز في الجهاز الإداري، خلافا لأبناء الحرفيين والتجار والطبقات الدنيا الأخرى (الممثلون، الخدم، إلخ)، الذين تم استبعادهم تمامًا من هذه الوظائف. هذا ما يفسر طابع ودور الفلكلور الفلاحي في الثقافة الصينية القديمة.
تروي حكاية مشهورة عن لقاء جرى بين المعاصرين العظيمين سو دونغ بو و مي فاي (أواخر الألف الأول ميلادي) . بحسب مذكراتهما، يتبين أن الرسامَين نادرا ما تقابلا وجها لوجه. ذات يوم، مرّ سو دونغ بو خلال سفَر رسمي على البلدة التي كان مي فاي موظفا فيها وقام بزيارته. كان مي متأهبا للاستقبال. في غرفة كبيرة كان هناك طاولتان، على كل منهما ريشات للرسم رائعة، حبر وثلاث مائة ورقة من أجود الأنواع لكل منهما، بينما وضعت على طاولة مكملة أطعمة مختلفة ومشروبات بصورة رئيسية. عندما دخل سو، قابل الاستقبال بضحكة وجلس بعد قليل الى إحدى المائدتين دون أن يعلّق بكلمة. حذا المضيف حذوه: إبريق من نبيذ الأرز – ورقة. بالكاد أمكن الخدم مواكبة حك الحبر، لشدة السرعة التي أنجزت بها القصائد والكتابات الخطية. مع منتصف الليل وقد نفِدت المشروبات والورق قام الصديقان بتبادل أعمالهما وافترقا قريرَي العين، شعورا منهما بأنهما صنعا لبعضهما البعض ما يستحق الإعجاب.
كان تناول الخمر، حتى بعض المواد المخدّرة، في عهد كل من تانغ وسونغ جزءًا من طريقة حياة أهـل الأدب الفنية، ولكن في القرنين الثالث والرابع، يمكن الحديث تقريبا عن وباء… فقد كان الشعراء والرسامون يبحثون أحيانًا عن السلوى بتناول المخدرات مثل الإكسيرالطاوي (نسبة الى الطاوية وهي فلسفة دينية مبنية على تعاليم لاوتسو الصيني، القرن السادس ق. م.). الخطاط وانغ جيشي، على سبيل المثال، كان يتعاطى المخدرات … فيما بعد تراجعت عبادة الكحول في الأوساط البرجوازية إلى حد ما (ولكن ليس بين الشخصيات الأدبية المحافظة، حيث استمرت)، لأن الأخلاق البرجوازية أدانت الكحول. كانوا يخجلون من تناولها ولم يجعلوها بأي شكل من الأشكال ضربا من العبادة.
استعمل الورق بشكل عام خلفية للرسم. وباتت من الآن فصاعدا أرضية اللوحة التي كانت شائعة والمصنوعة من الحرير أو القماش الدقيق الحبك نادرة: فهي لا تسمح بالتفاصيل الفنية ذاتها التي يوفرها الورق، تشهد على ذلك رسومات الصور القديمة، التي أنجزت في الغالب باستخدام تقنية الخطوط والألوان. من ناحية أخرى، كان الورق – مهما بدا ذلك صعب التصديق – أكثر مقاومة للتلف من الحرير.
الورق أيضًا هو اختراع صيني قديم، بحسب أخبار سلالة هان كاي لُون التاريخية، حوالي 100 قبل الميلاد. وقد رافق مختلف الوظائف في المحاكم. كما عثر على ورق قديم. الحرير الذي استعمل دائمًا أرضية للرسم كان يعالج بالغِراء. ورغم انه لم يُجلّ في أعمال العبادة، فإنه يحظى بتقدير كبير: يتم إنتاجه بنوعيات مختلفة تقدم للرسام خيارات شتى بحسب امتصاصه وأليافه.
بدأ التخصص في نهاية فترة تانغ وفي عهد سونغ كانت ظاهرة عامة ظلت السمة المميزة للرسم الصيني حتى يومنا هذا. هناك رسامون يصورون فقط المناظر الطبيعية وغيرهم ممن يرسمون الطيور والزهور فقط، ومعظمهم لم يحاولوا أبدًا رسم بشريّ مرة واحدة في حياتهم. أدى التخصص أيضًا إلى قيام فنانين اثنين بتصوير لوحة واحدة: أحدهما يرسم الحديقة، والآخر الأشخاص، الواحد الصخور، والآخرالنباتات، لأن كل فرد لا يشعر بالأمان إلاّ فيما يخص موضوعه.
في القرن العشرين نشأت في الصين أيضا مدارس ومعاهد وأكاديميات الفنون. ولأنها اقتدت بالنماذج الأوروبية، قامت في البداية بتدريس تقنية الرسم والتصوير الأوروبية بشكل حصري تقريبًا. واستمر أتباع مدرسة الرسم القديمة في التدريب بالطريقة التقليدية: راحوا يتتلمذون على فنان. في وقت لاحق، في ثلاثينيات القرن العشرين، حاز فن الرسم التقليدي المسمّى غووها على كراسي التدريس في المعاهد العليا، والتي ما زالت قائمة منذ ذلك الحين. واليوم، يتلقى أيضا طلاب الرسم التقليدي الدروس في علم التشريح وفن الرسم في الجامعات، كذلك تم اعتماد مناهج إعداد الفنانين الأوروبيين الحديثة (التصوير على الطبيعته) في البرامح التعليمية. يمكن تبيان نتائج هذا التدريب بوضوح في رسومات الطلاب. وسيكتشف المراقب اليقظ أيضًا تأثير الطريقة الأوروبية في النظر إلى الأشياء – وأحيانًا التقنيات الأوروبية – على لوحات الرسامين الشباب، المرسومة بالطريقة التقليدية. لم يعد هناك رسام يمكن أن يتطور بمعزل عن هذا التأثير. ولا وجود اليوم للأسلوب الصيني التقليدي الخالص والرسم المنظوري إلاّ بين الرسامين الكبار في السن.
د.ايلي مخول