إنّه تاريخ لبنان الجميل
إندماجٌ جغرافي تاريخي فني ثقافي صنع ليلة من ألق وسِحر، هَدهد مَوجُها النفوس، وسَخت على الحاضرين بنسمات وَشوشَت قلوبهم حاملة ذكرياتهم. تسابَق الحاضرون على إظهار «حفظهم» لأعمال نصري وفيلمون، ومنها الحوارات المسرحية. الفرح متواصل متنقّلاً بين اليدين والقلوب مَارّاً على الشفاه ناقلاً الضحكات إلى العيون.
السهرة من إعداد وتوزيع وإشراف «الثلاثي الرحباني» غدي ومروان وأسامة. على المسرح أوركسترا بقيادة غدي، أسامة يعزف على البيانو والإخراج بعين مروان. وعلى المسرح أيضاً كورال ولوحات راقصة رافقَت المغنّين وشاشات وإضاءة متناغمة شكّلت مجتمعة مع المدينة الرابضة على شاطئ وتاريخ وإغراء لوحة واحدة متكاملة.
صُور نصري وفيلمون ووطأة أصواتهما وقوة حضورهما عبر الشاشات كانت كبيرة على الجمهور، الذي لم يبخل عليه «الثلاثي الرحباني» بأي ناحية من السهرة، وخصوصاً مدّتها (بعكس الكثير من حفلات فنانين آخرين)، وكان الجمهور يستأهِل هذا الكرم. جمهور أتى ليمتلئ لا ليُفرغ.
البداية حماسية، رسمت صورة السهرة التي امتدّت لنحو ساعتين، تخلّلها 20 دقيقة استراحة. «طلّوا طلّوا الصيّادي». وبدأت الروائع بالانهمار بأصوات غسان صليبا وسمية بعلبكي وباسمة.
أغنيات نصري ومواويله «كيفن حبايبنا»، «يا مارق عالطواحين»، «جَبليّة النسمه»، «عالعالي الدار» وغيرها. وأعمال فيلمون التي هندسَها لفيروز أو صباح… خصوصاً أغنيات فيروز التي دُهِش البعض عند معرفتهم بأنها من ألحان «الصيّاد» فيلمون وهبي.
«يا دارة دوري فينا»، «يا مرسال المراسيل»، «أنا خوفي من عتم الليل»، «فايق يا هوى»، «كَتبنا وما كتبنا»، «طيري يا طيّاره»… وغيرها. لـِ»سنفرلو عالسنفريان» وقعٌ خاص عند الجمهور، كما لـِ«بويا بويا».
أصوات متمكّنة
لغسان صليبا تاريخ مع الرحابنة، لا العمل مع الثلاثي جديد عليه ولا مسرح «مهرجانات بيبلوس». فنان متمكّن الصوت والأداء. ولكنّ شيئاً ما كان يَنقص حَملُه أغنيات نصري وأغنيات فيروز من أعمال فيلمون. بعض الأغنيات كأنها لم تلمسه ليطال صوته ما بين نوتاتها.
هنا يبرز حجم ضخامة أصوات معيّنة، حين لا تتمكّن أصوات أخرى ضخمة بدورها من وَصل خيط الطرب إلى آخره مع الجمهور. متمكّن غسان صليبا وقوي الحضور. ولكنّ صوت نصري كان الحاضر الأقوى.
سُميّة بعلبكي أستاذة الغناء باحتراف، ولكنّ «الغناء الصَح» فاتَه «الطلعات والنزلات» التي تأخذنا فيروز بها أبعد من البحر وتُنسينا بها الزمان والمكان.
باسمة قدّمت الأغنيات بطريقتها وأسلوبها، غنّت الصبّوحة بحماسة، وعلى رغم طغيان «أسلوبها الغنائي الغربي» وعدم لفظ الأحرف بالقوة والشَدّ المطلوبين مثلاً في أغنية «طيري يا طيّاره»، إستطاعت كَمش النقاط المحرِّكة للحواس بألحان فيلمون لفيروز، خصوصاً في «أنا خوفي من عتم الليل».
الخلطة الثلاثية الرحبانية والأصوات الثلاثة المشاركة كانت بمستوى يليق بهذه الاستعادة، التي قُدِّمت بإتقانٍ وحرفيّة يرضيان الجمهور. صعبٌ أن يكون وقع أغنيات نصري وأعمال فيلمون هو نفسه كما الأصل، وهذا ليس مَردّه ضعف المُستعيد، بل القدرة الاستحواذية المخيفة للأصيل.
لا لـ«مراسيل» السياسة
غدي ومروان وأسامة الرحباني و»مهرجانات بيبلوس الدولية» قدّموا العمل المحلي الأجمل والأكثر احترافية لغاية الآن ضمن مهرجانات هذا الصيف، ولربما سيكون الأفضل بالإجمال. ما كان يُمكن الاستغناء عنه خلال هذه السهرة «السامية» المرتفعة بالحاضرين نحو النظافة والطيبة والرجولة والبراءة والأصالة والقيَم… مداخلات «الحكواتي» الممثّل رفيق علي أحمد، أو تبديل النص الذي قدّمه.
قوي الهيبة والحضور رفيق علي أحمد يوصِل النص المكتوب بزخم وقوة. النص بدوره يحمل رسائل سياسية مباشرة للزعيم ورئيس البلدية و«القطعان» و«الرعيان» وللشعب والأجيال… برَبطٍ متناسق مع حوارات الأخوين رحباني بصوت نصري وفيلمون. السهرة أسمى وأرقى من أن تُلوّث بالسياسة.
صحيحٌ أنّ الشعب يستحق هذا «الوعظ»، ولكنه يستحق أيضاً ليلة من هدوء بعيداً من الهموم. في تلك الليلة، «مرسال المراسيل» لم يكن رفيق علي أحمد فقط. وقف الجمهور الذي ملأ المدرجات مصفّقاً قبل بداية الحفل. ثلاثي آخر حلّ تلك الليلة في جبيل ليكون هو بحدّ ذاته الرسالة.
رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس بلدية جبيل المستقيل زياد حواط ورئيس «المؤسسة المارونية للانتشار» المهندس نعمة افرام. مَراسيل فيلمون وهبي والأخوين رحباني هي التي وصلت وبَقيت، ويبقى صوت كلّ من نصري شمس الدين وفيروز… أوفى وأصدق مِرسال.