سيدي، يا أسيرا للمسيح وطليقا به في الأسر، ها قد مضت السنة الأولى، ولحقت بها الثانية، والثالثة انتهت، وانت لا تزال، غائبا مُغيَّبا، مع رفيقك المطران يوحنا ابرهيم، في مكان ما في هذا الشرق، في أسر قسري بين أيدٍ دهريَّة لا ترأف ولا تفقه عمق أبوَّتك الروحيّة ومَدلولاتها. حلب ونحن ما زلنا في انتظارك. فأنت، وإن قُيِّدت حريتك تبقى، وأنت السائح بين الارض والسماء، طليقٌ مُحلِّقُ كالنسر في العُلى لا يُقيِّد حريته قيدٌ دهري ولا سلاسل بشريّة. حلب الشهباء يا سيدي، حلب المدينة البيضاء، ما زالت في انتظارك. حلب مُلتقى الأديان والثقافات والحضارات التي تعاقبت على المدينة، ما زالت في انتظارك. هي لا تنسى أن كل هذه الحضارات حاولت في شكل أو آخر ابتلاعها، فاستوعبتها حلب بذكائها المعهود وفتحت لها القلب والعقل معاً، فنهلت حلب منها وشربت هي من كرمها وكرم أخلاقها، فأمست حلب مكان التنوع في الوحدة والوحدة في التنوع. حلب المعبَر الأرضي الشرقي الاستراتيجي والمَنفذ النافذ الذي لا مَفرّ منهُ، من داخل الشرق وخارجه واليه، لا تزال في انتظارك. حلب مكان احتشاد التأثيرات الصاعدة غرباً من جهة المتوسط وشرقا من الداخل السوري والعمق المشرقي وبلاد ما بين النهرين، لا تزال في انتظارك. حلب معشوقة الثقافة وألوان الفكر وفن الكلام والخطابة، حلب الموسيقى المشرقية المتنوعة والشعر والقدود التي ترفع الروح برافعة سِحريّة، لا تزال في انتظارك. حلب الجغرافية العقلية لفن حسن الأكل حيث تتزاوج الأطعمة والمطابخ والعطور والتوابل والأعشاب العطرة، لا تزال في انتظارك. حلب مُدبِّرَة التجارة على خط طريق الحرير ومُلتقى الصناعات في الزمن الحاضر، لا تزال في انتظارك. حلب الإنطاكِيَّة اللصيقة بجغرافية أنطاكية، مدينة الله العظمى، حيث دعي المسيحيون مسيحيّين أولا، فأمست معبر المسيحية إلى العالم والعالم إلى المسيحية، لا تزال في انتظارك. حلب سمعان العمودي وكاتدرائيته الجميلة، الأرقى بين روائع العمارة البيزنطية القديمة للقرن الخامس، حلب سمعان العمودي، أبو العمودييّن شرقا وغربا، الذي ربط الأرض بالسماء فكان، هو أيضا، مثلك، سائحا بين الأرض والسماء، لا تزال في انتظارك. حلب نزار قباني الذي تنَدَّم على خطئه الكبير “عندما لم يضعها على خريطته الشعرية”، قبل أن يعترف أمام الله والبشر بأنها “كانت دائما على خريطة عواطفه، وأنها كانت تختبئ بشرايينه كما يخبئ الكحل، بالعين السوداء”، لا تزال في انتظارك. حلب كلها في عدتها وعديدها، في كنائسها وجوامعها، في مآذنها وأجراسها، في شوارعها الضيقة وحاراتها، في أسواقها القديمة ومطارحها الخضراء، كلها يا سيدي لا تزال في انتظارك، مُشتاقة إليك وتفتقدك. دموعها الغزيرة أمست بحرا من الدموع روت أنهار سوريا المُعذَّبة. حلب يا سيدي، الصامدة والصامتة على الجرح والمُعاناة، تنتظر عودتك لتنسى زمن المحنة والمُعاناة، لتغفر وترمي خارجا وتنفض عنها غبار سنوات الفراق. فهي لم تتعوَّد فِراقك منذ أمسيت لصيقُها، في السراء والضراء، منذ سنة 2000 حين صعدت على عرش أسقفيتها بالمسيح. حينها عقد الرب قرانكُما، فأخذتها لك امرأة ترعاها وتحفظها وتصونها وترفع شأنها وكرامتها كالزوجة، وتُنمّي شيبها وشبابها، وهي أخذتك ملاكاً حارساً وحارثا لأرض الرب فيها. حلب التي أحببتها أنت “كما أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها”، كما كتب شفيعك بولس لأهل أفسوس <5:25>، لا تزال على الوعد والانتظار والشوق. سيدي، وصديقي، لا بد أنك علمت، في شكل أو آخر، بانتقال والدتك، روزا، ووالدة غبطة ابينا البطريرك الحبيب يوحنا، الى الأخدار السماوية لمُلاقاة وجه الوجوه، رب الأرباب وسيد الاسياد. كل الكنيسة المنظورة وغير المنظورة، الحاضرة والمُغيَّبة، كانت حاضرة في مدينة اللاذقية الساحلية الملاصقة للبحر وما وراءه، في كاتدرائية القديس جاورجيوس، قاهر التنين. لقد كنت أنت الغائب الاكبر والاكثر حضورا في هذه الصلاة التي رافقت الى بيت الآب تلك التي قدَّمت له، من لحمها ومن دمها، خداما لمذبحه المقدس ولكلمته المقدسة. رحلت، وهي ايضا السائحة بين الارض والسماء، وقلبها يدمع وينزف، وقلبها المجروح يترجى ويعزف صلاة الرجاء بدون انقطاع، رجاء رؤية عودتك سالما، سليما، معافى مديد الأيام قاطعا باستقامة كلمة حق، رجاء عودتك لخرافك ولكنيستك ولأبرشيتك. غيابك كان كالسيف، مُصلتا على قلبها طيلة السنين الثلاث الماضية. وهي إن جازت الى ربها، فلم يجرؤ هذا السيف أن يجوز في قلبها وقلبنا، فرجاؤها كان أقوى، وهو لا يزال رجاؤنا، وانتظارها لا يزال انتظارنا، ونحن ما زلنا على الرجاء ثابتين، في انتظارك.
النهار