من البديهيّ القول إنّ القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع كلّ البشر منذ آدم إلى قيام الساعة هو أنّهم كلّهم ينتمون إلى طبيعة إنسانيّة واحدة. والأمر البديهيّ الآخر هو أنّ الإنسان وُجد على وجه البسيطة قبل ظهور الديانات وانقسامها إلى مذاهب وطوائف، وقبل نشوء الأمم والقوميّات والأوطان.
الله، إذًا، إذا تحدّثنا بلغة دينيّة، خلق الإنسان، في البدء، مجرّدًا من أيّ انتماء دينيّ أو مذهبيّ أو وطنيّ أو قوميّ أو عرقيّ… ولم تكن ثمّة حاجة إلى بعث الرسل والأنبياء إلى العالم لو لم يعصَ الإنسان مشيئة الله. لذلك، يسعنا القول إنّ الديانات لم تكن واجبة الوجود لو بقي الإنسان صالحًا لا يفعل سوى الخير. كما أنّ الله يفضّل العلاقة الشخصيّة القائمة بينه وبين مخلوقه الأحبّ، على العلاقة القائمة على العقيدة والإيديولوجيا والفكر…
كان العالم أجمل قبل ظهور الديانات، لأنّ الإنسان كان طائعًا لله محبًّا لأخيه الإنسان. نعم، كان العالم أجمل لأنّ الإنسان كان أقرب إلى الله منه الآن. كان أجمل لأنّه لم يكن هناك تمييز بين البشر على أساس دينيّ أو مذهبيّ. كان أجمل لأنّ الله خلقه من أجل الإنسان… كان العالم أجمل لأنّه كان حقًّا فردوسًا لا جحيمًا، لذلك يتوق الناس للعودة إليه.
ولا ننسى التذكير بعد هذا كلّه أنّ الله وعد الإنسان وحده بالخلود… فكلّ شيء سيبطل. الديانات والمذاهب والكتب المقدّسة ومدوّنات التراث تصبح، في حضرة ذي الجلال والإكرام، بلا جدوى. أمّا الأوطان والقوميّات والإيديولوجيّات فستبيد. الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي صنعه الله على “صورته ومثاله” وجعله “خليفة” له في الأرض، هو وحده المدعوّ إلى الحياة مع الله إلى الأبد.
ويسعنا أن نقول أيضًا إنّ الإنسان هو المكان الذي يفضّل الله أن يُعبد فيه. فالإنسان الساكن الله فيه هو أبهى من الهياكل والكنائس والمساجد. أن تخدم الله هو أن تخدم الإنسان، الكائن الوحيد الذي صنعه الله بيديه من تراب وماء، ونفخ فيه من روحه. لذلك يصبح الإنسان هو القِبلة والمحراب. يصبح الحجّ إليه بمثابة الحجّ إلى الأماكن المقّدسة. فالله لا يسكن في حجارة مرصوفة ولا يأويه سقف، هو يفضّل السكن في القلوب الدافئة.
لا ريب، إذًا، في أنّ أيّ تضامن تنحصر حدوده في إطار الدين الواحد أو المذهب الواحد أو الوطن الواحد هو تضامن غرائزيّ لا يمكن بأيّ معنى من المعاني اعتباره تضامنًا إنسانيًّا، ولا حتّى تضامنًا يرضي الله… فأن ينساق المرء إلى التضامن مع أبناء أمّته الدينيّة أو القوميّة من دون سائر الناس الذين يصيبهم ما يصيب أقرباءهم فليس من الإنسانيّة وليس من الله بشيء. فإمّا أن يكون التضامن مع الإنسان، أيّ إنسان، بصرف النظر عن انتماءاته العديدة، وإمّا لا يكون هذا التضامن أصيلاً بحسب الطبيعة التي زرعها الله فينا.
مع مَن نتضامن؟ يؤكّد السيّد المسيح، في مثل السامريّ الصالح، جوابًا على السؤال: “مَن هو قريبي الذي ينبغي لي أن أحبّه؟” أنّ القرابة ليست هي القائمة على الانتماءات العائليّة أو القوميّة أو الطائفيّة، أو على أيّ عصبيّة أخرى، بل هي القرابة التي تنشأ في ظرف معيّن عندما يلتقي المرء بمَن يحتاج إلى مدّ يد العون إليه. القرابة، إذًا، في هذا المقام، ليست “قرابة اللحم والدم”. القرابة صيرورة تفرضها “الرحمة”. كلّ عابر سبيل، أو نازح، أو مهجّر، أو ضحيّة للإرهاب، أو مستضعف في الأرض يصبح هو القريب.
لسنا على شيء إذا ميّزنا بين ضحيّة وأخرى، وإذا ميّزنا بين مظلوم ومظلوم، وإذا ميّزنا بين قتيل وقتيل… لسنا بشرًا إذا لم نحبّ جميع الناس، ونتضامن معها في مصائبها، سواسيّة كأسنان المشط.
ليبانون فايلز