لا يلتزم الله بأيّ من الشرائع الموجودة على الأرض والمنسوبة إليه، لا الدينيّة ولا المذهبيّة ولا الطائفيّة. إذا التزم بإحداها يبطل أن يكون إلهًا للعالمين. فالشريعة، كما هي ممارسة على أرض الواقع اليوم، صنو الجمود والشلل، صنو عدم الحركة… وكما نعلم ما لا يتحرّك يموت. لا حياة من دون حركة دائمة. الله الحيّ لا تربطه شريعة “إلهيّة” ينزع روحَها البشر بقساوة قلوبهم، وبحقدهم، وبحروفيّتهم القاتلة. الله، وإنْ سلّمْنا جدلاً بأنّه أنزل كتابًا وشريعة أو أكثر، يبقى حرًّا منه ومنها ومن كلّ كلماته التي قالها.
الله وعد الإنسان وحده، من دون سائر المخلوقات، بالحياة الخالدة. الديانات تبطل. الشرائع تبيد. وكلّ ما ليس وجوده دائمًا إنّما يكون قابلاً للموت. فإذا قالت الديانات بأنّ الإنسان وحده سيحيا إلى الأبد، إنّما أرادت بقولها هذا التأكيد على مركزيّة الإنسان وأولويّته على الشريعة ومقتضياتها. الشريعة هي الوسيلة، بينما الإنسان هو الهدف. والهدف، بلا ريب، أسمى من الوسيلة. الإنسان أعظم من الشريعة.
الله خلق الإنسان وميّزه عن المخلوقات الأخرى بالعقل. العقل جزء لا يتجزأ من الإنسان. الإنسان محرومًا من العقل ليس بإنسان. لذلك لا يمكن الله أن يطلب من الإنسان تعطيل عقله، إذ بذاك يكون قد خان خلقه وتصميمه للعالم. وما بين الشريعة والعقل، الله صنع العقل قبل الشريعة، وجعل العقل حاكمًا على الشريعة، لا العكس.
لكن عن أيّ عقل نتحدّث؟ الله خلق الإنسان حرًّا مختارًا ما بين الخير والشرّ. والحرّيّة من دون إعمال العقل لا يليق بها أن تدعى حرّيّة، بل تصبح عملاً آليًّا، لا إراديًّا، غريزيًّا بحتًا. الحرّيّة الحقيقيّة هي الصادرة عن العقل. أمّا الحرّيّة المنشودة، التي نتوق إليها، فهي تلك الحرّيّة الصادرة عن العقل الواعي، المدرك لأولويّة الإنسان وحياته وكرامته على أيّ أمر آخر، حتّى الشريعة!
حين يغيب العقل، تصبح الشريعة “الإلهيّة”، كما نراها في أيّامنا، شريعة الغاب والتخلّف الفكريّ والأخلاقيّ. من دون عقل، تصبح الشريعة “الإلهيّة” شريعة الحاقدين والقتلة والمنحرفين والشاذّين. حين يخمد العقل، تصبح الشريعة “الإلهيّة” شريعة حزبيّة، عنصريّة، مذهبيّة. حين يغيب العقل، يغيب معه الله نفسه!
ما فات كبار العلماء التفكّر بهذه المسألة والدعوة إلى إعمال العقل في تطبيق الشرائع ومواكبتها للمتغيّرات الثقافيّة والاجتماعيّة… لكنّ الجهل ظلّ هو السائد، لأنّ أهل الجهل أكثر حظوة لدى أهل السلطة من أهل العقل. السلطة تقرّب الجهّال من الفقهاء والكهّان، وتفضّلهم على ذوي العقل، لأنّ الأخيرين يشكلون خطرًا عليهم. لذلك فشلت المؤسّسات الدينيّة، وبخاصّة في الحقبة المعاصرة، في إجراء أيّ اجتهاد يهب العقل مكانته التي خلقها الله عليها.
حين يغيب العقل يصبح الإنسان في حالة العبوديّة للحرف الميت، ولن ينقذه من هذه الحالة سوى إعادة الاعتبار إلى العقل الذي تمتدحه النصوص الدينيّة كافّة. لكن، للأسف، عوض العقل يعمّ الجهل والتحليق في الغيبيّات، وعوض صنع المستقبل تسود العودة إلى الماضي السحيق واستحضار النزاعات. فإذا بقي الخطاب الدينيّ، كما هو اليوم، تحريضيًّا وفتنويًّا في سبيل رفعة شأن الأديان أو المذاهب أو الشرائع فسوف يفقد الإنسان أكثر فأكثر من إنسانيّته التي خلقه الله عليها. العودة إلى العقل هي الباب الذي لا بدّ منه من أجل العودة إلى صفتنا الإنسانيّة، وتاليًا “الإلهيّة”.
كلّ ما هو غير إنسانيّ، هو حكمًا غير إلهيّ!