فائض من الطائفيّة، فائض من المذهبيّة، فائض من الدين، فائض من الفساد. هذا حال بلدنا اليوم.
نعم، لقد ميّزنا ما بين الطائفيّة (والمذهبيّة) والدين، ذلك أنّ الطائفيّة لا علاقة لها بالإيمان الدينيّ، بل هي تعبّر عن العصبيّة الناشئة بين أفراد لا يجمع بينهم سوى الهويّة الطائفيّة التي نالوها بالولادة. أمّا الدين، هنا، فالمقصود به ليس الإيمان وحسب، بل الظواهر التقويّة والتعبديّة والشعائريّة التي ازدادت وانتشرت في الآونة الأخيرة بشكل لافت.
لقد ميّزنا ما بين الطائفيّة (والمذهبيّة) والدين، ذلك لأنّ الطائفيّة هي وسيلة يستغل بها زعماء الطوائف الزمنيّون، بالتواطؤ مع القادة الدينيّين، المشاعر الدينيّة للمؤمنين في سبيل مصالحهم الخاصّة. أمّا الدين فهو الإخلاص التام لله والأمانة لتعاليمه والتسليم المطلق لمشيئته العليا.
لقد جاء في القرآن عن الفرق ما بين الانتماء الدينيّ المعلن والإيمان الحقيقيّ ما يأتي: “قالت الأعراب: آمنّا. قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولـمّا يدخل الإيمان في قلوبكم” (سورة الحجرات، 14). وفي تفسير هذه الآية أنّ الأعراب أعلنوا إسلامهم في الظاهر، وانقادوا له ظاهرًا، أمّا الإيمان الصحيح فلم يدخل قلوبهم. يسعنا، هنا، التأكيد على أنّ ما تقوله هذه الآية عن حال بعض المسلمين إنّما يطال أيضًا أحوال المسيحيّين واليهود وسواهم من أتباع الديانات الأخرى.
أن يسود الفساد في زمن الطائفيّة فهو أمر بديهيّ، ذلك لأنّ الطائفيّة، من دون فساد، لا حياة لها ولا دوام. أمّا أن يسود الفساد مع هذا الفائض الدينيّ فثمّة ما يثير الاستغراب.
يبدو، للأسف الشديد، أنّ تمييزنا ما بين الدين والطائفيّة والمذهبيّة هو مجرّد وهم، ولا يستقيم إلاّ في مجتمع واعٍ يستطيع التمييز بينهما. مجتمعاتنا لم تصل، بعد، إلى هذا الوعي اللازم لتقدّمها وتطوّرها.
كيف يمكن أن يسود الوعي الدينيّ مع قيادات دينيّة غير متحرّرة من سلطة الملوك والأمراء وخاضعة لرجال السياسة وذوي الأموال؟ كيف يمكن أن يسود الوعي الدينيّ مع قيادات دينيّة هي نفسها فاسدة، تعقد الصفقات المشبوهة، وتصمت عن ارتكاباتها وارتكابات أقاربها وحاشيتها، والأهمّ أنّها تصمت عمّن يمدّها بالمال أو يرضى عنها سياسيًّا فلا يعمل على إزاحتها؟
كيف لا يسود الفساد مع قيادات دينيّة استبعدت الفقير والمسكين والمريض والأرملة واليتيم والنازح وكلّ المعذّبين في الأرض من دائرة اهتماماتها، وحصرت مطالبها بتأمين حصّتها الطائفيّة من مراكز الدولة، من أعلى الهرم إلى قاعدته؟ كيف يمكن ألاّ يسود الفساد مع غياب هاجس الإنسان والبيئة عن بال القيادات الدينيّة؟
لا ريب في أنّ انتشار الفساد وقبوله في مجتمع ما دليل على زوال الفضائل الدينيّة والاجتماعيّة، غير أنّ تآزر ذوي النيّات الحسنة من المنتمين إلى هيئات المجتمع المدنيّ، الذين بينهم مؤمنون ينطلقون من قواعد إيمانيّة كما يوجد بينهم غير الممارسين دينيًّا الذين ينطلقون من مسلّمات إنسانيّة عامّة سيؤدّي حتمًا إلى القضاء على الفساد. هذا ما لمسناه إلى اليوم في تصدّي هيئات المجتمع المدنيّ لكيفيّة معالجة أزمة النفايات.
“فإنْ فسد الملح، فبماذا يُملَّح؟” (متّى 5، 13)، قال يسوع لتلاميذه.
ليبانون فايلز