على الرغم من التنوع غير المحدود من أشكال السرد وطرائق بناء الرواية، فإنّ ثمة بنية توحّد بين الروايات التي تتناول واقع العراق ما بعد 2003 يمكن تعريفها ببنية المأساة أو الهزيمة. كما أنّ ما يتغلغل في تلافيف هذه الاعمال هو إيقاع غاضب لا ينتج سوى مزيد من الهزيمة ولا تُثمر فيه الشعارات غير الإنكسارات المتتالية. تنزلُ رواية «فاليوم عشرة» للروائي العراقي خُضير فليح الزيدي، منشورات ضفاف والإختلاف بيروت-الجزائر 2016 ضمن صنف الروايات التي تَتَكىءُ على مَنجم الواقع المهشّم لنسج موضوعاتها الأساسية، وهي تتبع تمثّلات الهزيمة على كلّ المستويات.لا ينفصلُ إخفاقُ حلم البطل سلام الوافي من أن يكون شاعراً عن أوضاع الوطن الذي حلّت به الكوارث من الحرب والحصار الإقتصادي والبؤس الإجتماعي.
بيع الكتب
كما أنّ مصير العقيد غسان وعجزه عن النطق وإضرابه عن الأكل ومن ثُمَّ مشاركته في حفل رابطة كفى للإنتحار الجماعي ليس إلّا صورة من تداعيات سقوط مدينة الموصل في حزيران 2014 بقبضة جماعة مُتطرفة. الأكثر من ذلك يُجسد هاتف الصراف بتحولاته الغريبة وأشكاله المُتناقضة نموذجاً صارخاً للإنتهازية والميوعة المبدئية الشائعة في الوسط السياسي، وذلك ما أدّى إلى انحسار مساحة العراق وتآكل أجزائه بحيثُ إختار له الراوي تسمية حبة العدس.
كما تُصادف في الحقل السياسي العراقي شخصيات تضاهي شخصية الدكتور ناعم المتقن لأحابيل السياسة. تعدّدت أسباب هروب سلام الوافي من العراق عقب تعاظم المعاناة بفعل الحصار الإقتصادي وانسداد بوابات الأمل.
إذ باع كتبه وتخلى عن الشعر سالكاً الطريق إلى عَمانْ ومن ثُمّ سافر إلى كندا. ما يراه في عالمه الجديد من الإهتمام الكبير بمهنة الصحافة يدفع به إلى اختيار العمل الصحافي، ويوقّع عقداً مع وكالة فرنسية لصناعة الأفلام الوثائقية في العراق.
ويتزامن توقيت عودته إلى بلده لإعداد أفلام وثائقية عن مشكلات مركبة في بيئة المنشأ مع احتلال الموصل ومن ثُمّ إعلان دولة الخلافة من على منبر جامع النوري الكبير. هنا ما يجب الإشارة إليه هو أنّ عنصر الزمن يخرجُ من نسق التتابع، إذ تتشابَك الأزمنة وتكسرُ بنية الإسترجاع لوقائع متعددة خط الزمن المُتصاعد، أضفْ إلى ذلك توظيف تقنية الإستباق التي قد تقطع الطريق على توقعات المتلقي.
عائدٌ إلى الجحيم
إنّ القسم الأول من الرواية يدورُ حول الخطاب والخطاب المُضاد بين الرئيس والخليفة، كما أنّ الراوي، وهو البطل سلام الوافي، يرى فيلماً وثائقياً بعنوان «لا مناديل لدموع العقيد» عن ملابسات انسحاب الجيش العراقي ويُفاجأُ بظهور أشخاص يُدلون بآرائهم عن شخصيته وما يعرفون عنه. هنا تبدو المشاهدُ غائمة بل تتّخذ نمطاً أقرب إلى الهذيان، وبذلك يكون هناك مبرّر لإيراد أسماء مُعظم شخصيات الرواية، ومن ثُم يُعَنون المؤلف كل قسم بإسم شخصية معينة أو صفتها مع كشف عن خلفيتها الإجتماعية والظروف التي جمعتها بالراوي، وهذا الأسلوب في توزيع المادة الروائية شبيه بما تبنّاه نجيب محفوظ في رواية «ميرامار» مع الفرق الوحيد، وهو أنّ سلام الوافي ينفردُ بوظيفة الراوي في «فاليوم عشرة» وبذلك يُهيمنُ منظور وحيد في سرد الأحداث ولا وجود لحالة التناوب على موقع السارد.
ما يُكسب العمل طابعاً صاخباً هو استخدام المحكية العراقية بعفويتها والعبارات المنبثقة من صميم المجتمع والبيئات المُهمّشة، ناهيك عمّا تستخلص إليه من تأثير الوحدة المكانية على سلوك وتصرفات الشخصيات، إذ يتبدى هذا الأمر أكثر في شخصية سلام الوافي فالأخير يقع في شرك التناقض بين ثقافتين مختلفتين إذ تطفو مُخلفات النظرة الشبقية على شخصيته كلما التقى بالأُنثى.
وخلافاً لما كان يرغبُ فيه سلام الوافي بعدم العودة إلى العراق، ساقَته ضرورة المهنة إلى بؤرة ساخنة بتأثير ارتفاع درجات الحرارة واضطرام حرب جديدة مع دولة الخلافة.
الإحتجاج بالموت
ما شهده العراق من الإنهيارات والحروب الضروس عَمّق جرح الفرد في هذا البلد بحيثُ حجبت غلالةُ قاتمة رؤيته للمستقبل، يروم المؤلف نقل هذا الواقع من خلال ما يُناسبه من مشاهد مُتناقضة إذ يتجوّل بك في منطقة الباب الشرقي التي أصبحت سوقاً لبيع المواد المخدّرة والحبوب المنوّمة، ويستخدم السُخرية السوداوية لتجسيم ما يقاسيه الإنسان العراقي من المحن، إذ ترى مثلاً من يستظل بحذائه من حرارة الشمس.
فضلاً عن ذلك بادرتْ جماعة إلى إنشاء رابطة كفى للإنتحار الجماعي، فتعجب فكرة الرابطة الوكالة الفرنسية وتكلّف سلام بمتابعة حفلها الإفتتاحي، بمقابل هذه الصور الموغلة في العبث. كما هناك جانب من الحياة الباذخة والمحمية من كل المخاطر تستأثر بها الطبقة السياسية، إذ نحت المؤلف أداة مُقنعة ليخرق الراوي بواسطتها محمية السياسيين.
ما أن يصل سلام إلى كندا ويبدأُ بمتابعة الحفل الإفتتاحي لرابطة كفى للإنتحار حتى يصدمه وجود أخيه بين المُنتحرين. هنا يتذكرُ الراوي لازمة أبو العوف فهو يعقبُ على كل شيء بعبارة عادي جدا في العراق الجديد أن تفقد أفضل من أن تكتسب.
هذا العمل ليس أحادي الموضوع بل له أبعاد سياسية واجتماعية ونفسية من دون أن يقع المؤلف في شرك لغة ومصطلحات تقريرية مُتخشبة. كما أنّ عتبة العنوان ترمز إلى مدى غرق المجتمع العراقي في غيبوبة عميقة.
الجمهورية