تعودنا وكالات الأنباء على أخبار القتل والاستشهاد ونكاد أحيانًا ننسى أن وراء كل شهيد قصة، وأحيانًا قصة بطولة جميلة وتستحق السرد، مثل قصة الأب الهولندي اليسوعي فرانس فان درلوخت.
عرفت كتيبات الأب فرانس فاندرلوخت وأنا فتىً يبحث عن معنى الحياة وعن نبض الحب. تعلمت الكثير منها نظرًا لعمقها النفسي والروحي بآن. وأعتقد أن الكثيرين من أبناء جيلي قدروا كتبه التي نشرتها دار المشرق: “الإصغاء والحب”، “من الفشل إلى النجاح”، “من أنت أيها الحب؟”، لما فيها من بساطة التعبير وعمق الحدس ودعوة إلى التغيير والنمو الروحي والعاطفي والعلائقي.
أود أن أنطلق من العنوان الأخير – من أنت أيها الحب – للتعبير عن حرني وتأثري بمقتل هذا اليسوعي المميز. الكتاب جميل وفي عمر المراهقة كان قراءة منورة للخروج من مفهوم “حب استهلاكي” والتتلمذ في مدرسة حب يجعل المرء ينمي ويفسح مجالاً للآخرين في حياته. حب لا ينظر إلى أنانية الأنا بل إلى جمال التعايش والوجود مع الآخرين.
ولكن حياة الكاتب أجمل! فهذا اليسوعي كان يستطيع أن يعود إلى بلاده حيث الأمن والرخاء الغربي وحرية التعبير. ولكنه فضل البقاء إلى جانب الشعب السوري في محنته الكبيرة. بقي في بلاد أراد أن يكون فيها واحدًا من أبنائها. وقد تعلم وأتقن اللغة لكي لا يكون بينه وبين الآخرين حواجز.
“من أنت أيها الحب؟”
– جواب الأب فرانس جاء من حياته: “ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه لأجل أحبائه”.
فيه، كما في كل شهداء المسيحية، يمكننا أن نقول ما قالته تلك الراهبة الاسبانية التي قُتلت في ما بعد في الجزائر: “لا يستطيعون أن يسلبوا منا حياتنا! فنحن سبق وقدمناها لهم!”.
حبذا لو اجتاح مبدأ الحب والمحبة هذا كل تعاريج البغض التي ما زالت تقض مضجع البشرية، وللأسف مضجع الأديان.
أود أن أختم هذه الكلمة النابعة من قلب حزين على استشهاد رجل قديس بكلمة من كلماته، وفرح بفرح الرجاء بأن لدينا شفيع جميل القلب والروح أمام الرب:
“ماذا يكتشف المؤمن إذا أصغى إلى قلب الله؟ يكتشف أن الله يمكن أن يكون ’محبوبًا‘ إلى أقصى حد، لأنه حب بكليته، ولأنه كله رغبة في هبة هذا الحب للآخرين. وهذه الرغبة الإلهية تجعل المؤمن يستقبل هذا الحب الفياض في قلبه، مستسلمًا إلى إرادة الله. فلا يأخذ المؤمن الحب الإلهي، بل يتلقاه: ’أنا خبز الحياة… خذوا كلوا‘. وهو لا يريد أن يأخذ حبًا من الله بدافع المصلحة، بل يريد حب الله لأنه اكتشف أن الله يحب أن يعطيه إياه. وهكذا يستقبل الحب الإلهي حبًا بالله!”.
أبت، لقد استقبلت حب الله وأشعت حياتك به حتى الموت حبًا بالله وحبًا بالقريب (البعيد)!