1- إعداد الحياة
تكوّن الكون على مراحل وظهرت الحياة على الأرض بأمر الخالق، الذي رافق تطوّرها على مدى عصورٍ وأجيالٍ وأجيال. خلق الله الكون والحياة، ومن جمال وعظائم خلائقه الإنسان. نعم، الإنسان هو قمّة إبداع خليقة الله، لأنّه خُلِقَ على صورته ومثاله “في البدء خلق الله السموات والأرض ]…[ وصنع الله الجَلَد وفصل بين المياه … ]…[ وقال الله: لتنبت الأرض نباتًا ]…[ وكان مساء وكان صباح: يوم ثالث ]…[ فخلق الله الحيتان العظام ]…[ يوم خامس: فصنع الله وحوش الأرض ]…[ وقال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا ]…[ على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم” (تك 1: 1-27).
عَمِلَ الله طويلاً في تحضير الكون، لاستقبال ذلك الإنسان، الذي خُلق ليُعطي للكون الحياة، المستمدّة من حبّ الخالق. لم يكن وجود الإنسان على الأرض أبدًا صدفة، بل كان وجوده نابعًا من إرادة الخالق وتدخلّه المباشر، بإعطائه الحياة. يشارك الإنسان بدوره مع الله الآب في الخلق والإبداع. أخذ الله الخالق وقته الكافي، عندما خلق الطبيعة والإنسان. إنّ عامل الوقت في تحضير مسيرة الحياة مهم جدًّا؛ لأنّ الأعمال العظيمة والكبيرة والمصيريّة تحتاج إلى الإعداد، والتحضير والمرافقة، والمتابعة، من أجل نجاح واستمرار أي مشروع، يصبو نحو الحياة الملئَ فرحًا وحبًّا.
علّمتنا خبرات الحياة، أنّ الإنسان الذي يتوق نحو النجاح في أيّ عملٍ، أو قضيّة، أو مشروع، وبالأخص مشروع يطاول وجوده وكيانه واستمراريته، يجب أن يُدرك بأنّ عليه أن يتواعد مع الجدّية بالتزامن مع رؤية واضحة وإستراتيجية عمليّة، وقدرة على أخذ خيارات ناجحة، وتفكير عميق وعلميّ وإلى آخره.
إنّ عيش الحياة ومتطلباتها، لا ينتج عن عفويّة مطلقة ومرتجلة بل يمرّ بمراحل عديدة. وتتطلّب كلّ مرحلة الإعداد الجدّي والرصّين، من أجل تحقيق الأهداف التي وُجِد الإنسان من أجل تحقيقها، والتي تعود بالخير والفرح عليه، لا سيّما مع مَن يشاركه ويقاسمه تقريبًا ذات المبادئ والقيم والهواجس والأفراح والأحزان.
عندما قرّر الله الآب أن يخلّص البشريّة، انتظر طويلاً، فأرسل أوّلاً الأنبياء والمبشّرين، من أجل إرسال ابنه، لكيّ يخلّص الإنسان من الموت والخطيئة. امتدّ مشروع الله الخلاصيّ على حقبات مهمّة وفترات زمنيّة طويلة، في عمليّة تحضيريّة للشعب، لاستقبال المخلّص. “في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله. كان في البدء لدى الله. به كان كلّ شيء وبدونه ما كان شيء ممّا كان. فيه كانت الحياة والحياة نور الناس…” (يو 1: 1-4). نعم، إنّ الله أعدَّ شعبه جيّدًا، لاستقبال فكرة الخلاص والتحضير لها. فالإعداد للخلاص عمليّة تربويّة: “أعلن الله خلاصه لابنه إبراهيم. ولكن بين القرار والتطبيق قرون مضت. في تاريخ إسرائيل، أعدَّ الله شعبه لاستقبال المسيح. الإعداد البعيد الذي بشّر باستقبال المخلّص، ثمّ على يد الأنبياء والملوك والكهنة والقدّيسين. أعدَّ الله الطريق بوسائل وعلامات وأفعال لتثقيف الشعب المختار ومساعدته في تلقّي كلمته لإنقاذ العالم”.[1]
خُلق الإنسان لكي يعيش بالفرح والبهجة وبسلام مع ذاته ومع الآخرين. بالتأكيد خُلق الإنسان لا ليعيش في جوّ من القهر والعذاب وإلى ما هنالك، إنّما ليكون دائمًا في عيد للحياة والحبّ. يقول القدّيس إيريناوس الذي عاش في الجيل الثاني، أنّ “مجد الله يظهر في الإنسان الذي يعيش ملء الحياة”. بالرغم من ضغوطات ومشاكل ونزاعات هذا العصر، الذي لا يشبه أي عصر. وبالرغم من الحروب العالميّة واستعمال القنبلة الذريّة وانتشار المجاعات والأوبئة، تبقى هناك صرخة واحدة يطلقها لنا هذا العصر كي نعيش “ملء الحياة”. ولكي نعيش “ملء الحياة”، لا بدَّ من خلق مساحات فرح وبهجة، وفسحات أمل ورجاء، وأكثر من ذلك، خلق أجواء تحضيريّة ومناخات لتقبّل الواقع والعمل على تغييره. إنّ عدم التحضير ورفض الاستعداد، أو عدم معرفة كيفيّة التحضير والتمرّس لمواجهة الحياة، تُدخل الإنسان في أجواء ضبابيّة ومجهولة المصير، لا تخوّله عيش “ملء الحياة”. لذا وحتى يتمكّن الإنسان من اختيار الحياة وتذوّقها وعيش الحبّ على حقيقته، عليه الغوص في المعرفة والتفكير والعمل المنطقيّ والدخول في عالم التجربة والاختبار، والعودة إلى خبرات الآخرين ونضالهم. كما عليه أن يتفاعل مع العلوم الإنسانيّة لكي يُدرك حياته ويحملها نحو النجاح. وحين يكتشف الإنسان ذاته، ويتعلّم النظر إليها بتفهّم وإمعان ويفرح بأن يكون ذاته. عندئذٍ يستنتج بأنّ عليه أن لا يكون إلاّ ذاته.
إنّ الإعداد للحياة ومواجهتها على جميع الصّعد وبطرق عمليّة وإيجابيّة، تتطلّب من الإنسان، امتلاك الرؤية المبنيّة على العلم والمنطق والفهم والإدراك والتواضع، كما القبول بنزع الأقنعة ورفض الأدوار المزيّفة، والتخلّي عن المظاهر. فالإنسان الذي قرّر أن يسير على “دروب الحياة” لعيش “ملء الحياة”، عليه النظر دومًا إلى الإيجابيّة في الحياة وليس فقط إلى ما هو سلبيّ وتعيس ومُحزن.
تتطلّب عمليّة الخلق والإبداع، جهدًا متواصلاً، وعملاً دؤوبًا، وتحضيرًا مستمرًّا، وبالأكثر حبًّا وفرحًا. فهذا يطبّق على علاقة الرجل والمرأة، من خلال سرّ الزواج المقدّس، والذي ينتج عنه إحدى ثمار الحبّ، ألا وهي “الولد”. كم يستغرق الاستعداد لولادة هذا “الولد” (أي في مرحلة التكوين)؟ وكم يتحضّر الأهل ويحضّروا أنفسهم لتحمّل المسؤولية، بكلّ حبّ وفرح وتضحية وسخاء وحضور؟ تُبرز الحياة قيمة الإنسان، فيعطي حياته من أجل الآخر، الذي يُكسبه احترامًا لذاته، وللآخر المُحبّ. تدعو الحياة الإنسان إلى التربية على الحبّ والتمرّس عليه، والانغماس به وفيه، مع كلّ الاستعداد له، لكي يخطو نحو طريق النجاح. إنّ خلاص الإنسان هو في الحبّ ومن خلاله أيضًا
2- “فرح الحبّ” يستعيد زمام الأمور
صدر الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ” حول العائلة عن البابا فرنسيس ( في 8 نيسان 2016). هذا الإرشاد الراعويّ بامتياز، يتوق نحو توضيح المبادئ وتأكيد القيم وشرح المفاهيم التي يقوم على أساسها الحبّ والزواج والعائلة. كما يتطرّق إلى الأساليب والوسائل في المحافظة على استمراريّة الحبّ بين المرأة والرجل، من خلال زواج، يطمح نحو الاستقرار والتوازن والنجاح.
يحاول الإرشاد استعادة زمام الأمور، من خلال الاهتمام بشؤون وشجون الزواج والعائلة. وقد عرض بفصوله الثمانية التحدّيات والواقع، وأعطى بعض أجوبة عمليّة لبعض الإشكاليات والعراقيل والصعوبات، التي تواجه الثنائي، المرأة والرجل، في حياتهما المشتركة.
يستدرك الإرشاد المخاطر المُحّدقة بمؤسسة الزواج، من خلال تقديم بعض “العلاجات” والاقتراحات والتصوّرات، والمبادئ، وهذا يظهر جليًّا في التركيز على جميع العناوين والنقاط، التي عالجها آباء السينودوس. فقد لحظَ الإرشاد في الفصل السادس، تحت عنوان “بعض الإمكانات الرعويّة”، كيفية الاستعداد للحياة المشتركة، من خلال سرّ الزواج والاحتفال به ليتورجيًّا. وركّز على التحضير المُسبق كما على المرافقة قبل الزواج وبعده، وشدّد مطوّلاً على أهميّة التنشئة المستمرّة وضرورتها للخطّاب كما للمُنَشِّئين، من إكليروس وعلمانيّين، عبر استعمال العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والتمرّس على الحياة الروحيّة والأخلاقيّة في تنشئة الشباب.
يقول الإرشاد بهذا الخصوص:” أدّت حوارات مسيرة السينودوس إلى تصوّر الحاجة للبحث عن طرق رعويّة جديدة…]…[ تأخذ بعين الاعتبار تعاليم الكنيسة والحاجات والتحدّيات المحليّة على حدٍّ سواء” (عدد 199). ويؤكّد آباء السينودوس أنّ “العائلات المسيحيّة، بفضل نعمة سرّ الزواج، هي اللاعب الرئيس لرعويّة العائلة، خاصةً “من خلال تقديم شهادة فرِحة للأزواج وللعائلات، والتي هي كنائس بيتيّة” (عدد 200).
تَظهر راعويّة الزواج والعائلة في الإرشاد الراعويّ أي “فرح الحبّ”، عمليًّا وبشكل متجدّد. فهي تهتم بشكل حثيث وعمليّ وتطبيقيّ، ولا تكتفي بالنظريات أو بكلمات التشجيع أو الهروب إلى الأمام، أو حتى بإرهاق الثنائي “بأعمالٍ ثقيلة” عبر إلقاء اللوم والإدانة، بل بالغوص في صلب المشاكل والصعاب، واقتراح “حلول” عمليّة وواقعيّة، سهلة التطبيق، “من الضروريّ عدم التوقّف عند بشارة لاهوتيّة بحتة منفصلة عن مشاكل الشعب الحقيقيّة. فالرعويّة العائليّة ” يجب أن تقود إلى اختبار أنّ إنجيل العائلة هو الجواب على أعمق توقعات الإنسان…]…[ لا يتعلّق الأمر بمجرّد تقديم تشريعات، إنّما باقتراح قيّم، تستجيب لحاجاتهم اليوميّة” (عدد 201).
يذكّر الإرشاد “فرح الحبّ”، أنّ الاستعداد لسرّ الزواج وعيشه، بحسب أهدافه وتطلّعاته وانتظاراته، يتطلّب التحضير، وذلك من خلال برنامج، يضعه الرعاة مع العلمانيّين، من أجل تنشئة الخطّاب ومرافقتهم في مسيرتهم قبل الزواج وبعده. يفرض الإرشادعلى الرعاة العاملين في راعويّة الزواج والعائلة أو الكهنة والشمامسة، تنشئة كاملة قادرة على تنشئة الخطّاب ومرافقتهم، حتّى بعد الاحتفال بسرّ الزواج؛ “إعداد تنشئة أنسب للكهنة والشمامسة ورجال الدين والراهبات ومعلّمي التعليم المسيحيّ ولكلّ الناشطين في العمل الراعويّ…]…[ وتكون أكثر شمولية بالتحديد بالنسبة لما يتعلّق بالخطبة والزواج” (عدد 203). ويتابع الإرشاد بهذا الخصوص “ضرورة تنشئة عاملين في مجال الرعويّة العائليّة ]…[ بمساعدة علماء النفس، ]…[ والاستفادة من إسهامات علم الاجتماع، وعلم الجنس وتلقّي المشورة أيضًا… ]…[“فالدورات والمناهج التدريبيّة… بإمكانها أن تجعلهم مؤهّلين أكثر لإدراج مسيرة الإعداد للزواج” (عدد 204).
يتابع الإرشاد رؤيته، وإستراتيجيته وتطلّعاته، من أجل زواج ناجح وحياة مشتركة أكثر فاعليّة. يطلب من الشباب والشابات، الانخراط بطريقة جدّية وعمليّة، في مسيرة التحضير للزواج. يتناول تلك المسيرة من العدد 205 إلى 211 تحت عنوان “توجيه المخطوبين في مسيرة التحضير للزواج”. أجمع آباء السينودوس على ضرورة مشاركة الجماعة بإعطاء الأولوية لشهادة العائلات، وترسيخ التحضير للزواج في مسيرة التنشئة المسيحيّة”. “وقد تمّ تسليط الضوء أيضًا على الحاجة لبرامج محدّدة للإعداد الوشيك” (عدد 206).
يعرض الإرشاد بعض الطرق والبرامج التي تصبّ في خانة الإعداد للزواج “يتعلّق الأمر بنوع من التنشئة على سرّ الزواج يوفّر لهم العناصر اللازمة لقبوله بأفضل الاستعدادات لبدء الحياة العائليّة ببعض الحزم” (عدد 207). “من المناسب أيضًا إيجاد الطُرق…]…[ لتقديم تهيئة طويلة المدى…]…[ كلّ إنسان يبدأ الاستعداد للزواج منذ الولادة” (عدد 208).
يغوص الإرشاد في شرح دينامكيّة تنشئة الشباب، على الدخول في اكتشاف الآخر والتعامل معه من خلال الارتباط الرسميّ والعلنيّ؛ كلّ هذا من أجل تحقيق أهداف أزواج الغد، ألا وهي الفرح والبهجة والاستقرار. ويطلب الإرشاد من راعويّة الزواج تقديم كلّ المساعدة من خلال عناصر واقعيّة وطرق مقنعة وأساليب سهلة، وأن تكون عمليّة وعلميّة، تستند إلى واقع الشباب وحساسيتهم. “يجب لرعويّة ما قبل الزفاف ولرعويّة الزواج أن تكونا، قبل كلّ شيء رعويّة الرباط الوثيق…]…[ هذه المساهمات لا تتعلّق فقط بالاقتناعات العقائديّة، ولا يمكن حتى اختزالها في المصادر الروحيّة الثمينة التي تقدّمها دائمًا الكنيسة، إنّما يجب أن تتكوّن أيضًا من مسارات عمليّة، ومن نصائح واقعيّة، ومن استراتيجيّات مستمدّة من الخبرة، ومن إرشادات نفسيّة” (عدد 211).
يذكّر الإرشاد الخطّاب بضرورة الإعداد الجيّد والرصين للاحتفال بسرّ الزواج (الاحتفال الليتورجيّ)، الذي يوضّح للثنائيّ لاهوت الزواج وروحانيته من خلال عمل الروح القدس، فيحصلا على نعمة الله وهو منبع الخلاص. يؤكّد الاحتفال الليتورجيّ، الزواج أمام الله، ببركته وحضوره ومرافقته المستمرة للثنائي، الذي يطلُب نعمة الله وبركته.”الزواج أمام الله… تلتقي كلمة الله وحضوره بين الزوجين…]…[ وتلقّي نِعَم الله وهباته…]…[ فالزواج أمام الله إلتزام مقدّس وهبة إلهيّة…]…[ الزواج في الكنيسة هو الاتّحاد أمام الله والبقاء مخلصين للأصول المسيحيّة ومحاولة التقدم في الإيمان وتعزيز إتّحاد الثنائيّ”.[2] نستنتج أنّ الإرشاد يشدّد على ضرورة وأهميّة إعداد أفضل لسرّ الزواج، بالرغم من مسار التحضير للزواج الذي يبدو طويلاً وقاسيًا بعض الشيء. تسلّط الوثيقة التحضيريّة للسينودوس (2014)، الضوء على الإعداد الروحيّ للأشخاص المُقبلين على الزواج بالإضافة إلى مبادرات الكرازة بالإنجيل الموجّهة إلى العائلات والبنين.
يشدّد الإرشاد على التربية على الحبّ والمبادئ والقيم والأخلاق، كما على فاعليّة الاستعداد للالتزام بسرّ الزواج، عن قناعة وإرادة حرّة، واختيار واعٍ وانفتاح على الحياة. الإعداد للحياة العمليّة والمهنيّة لا تبدو أهمّ من الإعداد للحياة المشتركة أو للحياة العائليّة، التي تحدّد مصير الإنسان وخياراته. إنّها كيانه ووجوده وسبب فرحه ونجاحه أو سبب تعاسته أو فشله. من هنا طالب الآباء بالعودة إلى الإعداد للزواج بطريقة متجدّدة تجذب الشباب، والتشديد بإتباع مسيرة التحضير. أدرك الآباء (السينودوس) أنّ الإعداد هو الطريق الصحيح، الذي يقود نحو معرفة سلوك طريق الحبّ والزواج، وتأسيس عائلة على صورة عائلة الناصرة.
زينيت