أن يكتشف المرء أن ثمة متطوعين لبنانيين يذهبون الى العراق فذلك أمر مفاجئ، لكن المفاجأة ان هؤلاء المتطوعين لا يذهبون للقتال وسفك الدماء مع هذا الطرف أو ذاك، بل لمساعدة العراقيين على بلسمة جرحهم وشد أزرهم في مصابهم. هذا هو حال جمعية “فرح العطاء” التي لم تكتف بإرسال مجموعاتها الى طرابلس والاشرفية والضاحية الجنوبية لمساندة أهلها في المحنة التي أصابتهم، بل أرسلت ناشطيها الى بغداد منذ عام 2010، حيث أسسوا فرعاً للجمعية هناك، وها هم اليوم يذهبون الى الموصل وكل المناطق الملتهبة في وسط العراق وشماله من أجل مدّ يد المساعدة للبلدات والقرى المنكوبة والآلاف من المشردين الذين تغص بهم مراكز الايواء.
وصلت فرق “فرح العطاء” الى خطوط التماس بين “داعش” والبيشمركة الكردية، وتحديداً الى قراقوش – بغديدا والقوش وكرملليس، وكلها بلدات ومدن مسيحية استقبلت المئات من العائلات المهجرة من الموصل، ثم عادت لتتعرض بدورها لخطر التهجير. ويروي ملحم خلف، المسؤول عن “فرح العطاء”، مشاهداته من هناك، وفيها الكثير من الامور التي أصبحت معلومة، مثل أن “داعش” ومقاتليها ليسوا وحدهم على الارض، بل ثمة أئتلاف واسع يبدأ من مسلحي العشائر الى تنظيمات “الضباط الاحرار” و”جيش الاسلام” والبعثيين والنقشبندية ومسلحي الدولة الاسلامية. ويشرح ان مسلحي الائتلاف وصلوا الى اطراف بغديدا التي تضم 35 الف مسيحي، أضيف اليهم 16 الف مهجر مسيحي من أنحاء الموصل، فكان أن تحولت البلدة الكبيرة الى تجمع هائل واجه أزمة حياتية كاملة نتيجة فقدان المواد الغذائية والتهديد بالحصار والقصف واندلاع المناوشات على اطرافها.
ونقلاً عن خلف، ان بغديدا هي آخر معقل لمسيحيي شمال العراق، وأن الأزمة التي عانتها تحولت توتراً أمنياً كبيراً بعدما طلب المسلحون من البشمركة تسليمهم ضباط الجيش العراقي الذين أنسحبوا الى مناطقهم، اضافة الى محافظ الموصل وأعضاء مجلسه، وهذا ما لم تتم الموافقة عليه، ليتحول سهل نينوى ذو الغالبية المسيحية والذي ارادوه يوماً منطقة ادارة ذاتية لهم، خط تماس وساحة معركة بين الاكراد ومسلحي الائتلاف السني.
ويشيد خلف بموقف مطران بغديدا موشي الذي قرر الصمود في البلدة مع 11 كاهناً ورجل دين من أبناء رعيته، وعدم النزوح، وحض الاهالي على عدم مغادرتها الأمر الذي أدى استناداً الى مشاهدات خلف، واحصاءات “فرح العطاء” والجمعيات الانسانية الى عودة 70 في المئة من النازحين الى البلدة. ويشير الى أن الخطر يهدد كل الاقليات في سهل نينوى، لا المسيحيين فقط، ويشرح ان اليزيديين والشبك كانوا في خطر، وشعرت كل هذه الاقليات أنها على طريق الزوال ما لم يتم التصدي للاخطار التي تتهددها. واستناداً الى مشاهداته في شمال العراق، ان العراقيين متعبون جداً ويرون افقاً مسدوداً أمامهم، رغم كل المشاعر القوية حيال بلادهم وتجذرهم في ارض العراق. وفي رأيه أن الاقليات لا تستطيع خوض غمار القتال “لأنها تذهب فرق عملة في الصراعات الكبرى”.
أما دعوة مطران بغديدا الى الصمود والدفاع عن البلدة فيعتبرها خلف “موقفاً تاريخياً أعاد تصويب الأمور ووضعها في نصابها الصحيح، لأن العيش معاً يحتاج الى الآخر المختلف، وهذا ما لا يدركه المتحاربون في العراق، الذين تجاوزوا كل الخطوط الحمر، الامر الذي سيؤدي الى نشوء كيانات مذهبية غير قابلة لأي تنوع”.
والأخطر في انطباعات خلف بعد مهمته العراقية، أن ثمة خطة ممنهجة لتفريغ العراق من مكوناته الاساسية التي يعود وجودها الانساني والحضاري الى مئات السنين، وخصوصاً المكون المسيحي الذي يرى أن “هناك عملية تفريغ وتدمير منظمة لمقوماته، الأمر الذي لا يمكن السكوت عنه، أو الترويج له بدلاً من التنوع الديموغرافي والحضاري في المشرق”.
النهار