لا ريب في أنّ أحد أسباب التخلّف الدينيّ الممتدّ على أمداء العالم العربيّ يكمن في هيمنة الأنظمة السياسيّة على المؤسّسات الدينيّة. لا يسعنا أن نطلق على العلاقة بين السلطتين السياسيّة والدينيّة صفة التحالف، ذلك أن التحالف يفترض على الأقلّ تكافؤًا في القوّة والسلطة ما بين القائمين على المؤسّستين. واقع الأمر يفرض علينا التأكيد بأنّ الآمر والناهي في هذه العلاقة إنّما هو السلطة السياسيّة، وما على المؤسّسة الدينيّة تاليًا سوى الإفتاء بصحّة قرارات الحاكم المطلق الصلاحيّة على رقاب العباد وشؤون البلاد.
إذا كانت المؤسّسة الدينيّة لا تمتلك الحرّيّة لتخالف رأي السلطان، أكان ملكًا أم أميرًا أم رئيس جمهوريّة أم قائدًا للأمّة… فكيف لها إذًا أن تجتهد في الشأن الدينيّ في سبيل نهضة المجتمعات الإسلاميّة؟ كيف لمؤسّسة غير حرّة أن تهدي الناس إلى الحرّيّة؟ كيف لمؤسّسة تصمت أمام جهل الحاكم أن ترشد الناس إلى العلم والمعرفة؟ كيف لمؤسّسة تغضّ النظر عن ظلم الحاكم لشعبه أن تتحدّث عن الحقّ والباطل والحلال والحرام؟ كيف لمؤسّسة لا تحترم الإنسان أن تدافع عن حقوق الإنسان؟ كيف لمؤسّسة تؤمن بالاستبداد أن تنادي بالديمقراطيّة؟
من الطبيعيّ أن يرغب الحاكم المستبدّ في استبعاد كلّ عالم دين من أهل المعرفة والتقوى الحقّ، وإعلاء شأن الأقلّ علمًا، ذلك أنّه يعتبر أهل المعرفة أعداءه الألدّاء. أمّا تقريب الأقلّ علمًا فهو سيسهم في نشر الجهل على نطاق واسع، وفي تسهيل عمليّة إخضاع الناس وعدم قيامهم ضدّ الحاكم. أفضل طريقة لفرض الاستبداد على الناس هو في تعميم الجهل، وبخاصّة الجهل الدينيّ.
هنا يسعنا القول إنّ فساد الأنظمة واستغلالها العوامل الدينيّة في الفتنة الداخليّة والنزاعات ما بين أبناء الدين الواحد لا بدّ من أن يصيب بالفساد بعض القائمين على المؤسّسات الدينيّة، “وإذا فسد الملح، فبماذا يُملّح”؟ فكيف لمؤسّسة تصمت عن فساد حكّامها وبعض النافذين فيها أن تدعو إلى البرّ والإحسان ومكارم الأخلاق؟ وكيف للناس أن يصدّقوا هذا التناقض ما بين أقوالهم وأفعالهم؟
يقول الشيخ محمّد عبده (توفّي 1905) منتقدًا ما يشبه في زمانه حالنا اليوم: “ثمّ انتشرت الفوضى العقليّة بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم، فجاء قوم ظنّوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعُد للإسلام قِبل باحتماله، غير أنّهم وجدوا من نقص المعارف أنصارًا، ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانًا، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكّموا في التضليل والتكفير، وغلوا في ذلك حتّى قلّدوا بعض مَن سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم والدين، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إسلام، والدين من وراء ما يتوهّمون، والله، جلّ شأنه، فوق ما يظنّون وما يصفون”.
ينهي الشيخ عبده كلامه بتأكيده أنّ الإسلام “دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد، العقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه، وما وراء ذلك فنزغات شياطين أو شهوات سلاطين”.
لن يستقيم حالنا جميعًا، أبناء هذه البلاد، مسلمين وغير مسلمين، إذا لم يتمّ تحرير المؤسّسات الإسلاميّة من “شهوات السلاطين” الراغبين في استغلال الدين ورجاله في سبيل توطيد استبدادهم وديمومة سلطانهم.
ليبانون فايلز