ممّا قد يكون سببا لفرض الدّين بالعنف الإقصائيّ أو الإلغائيّ. و”إذا أردت أن تتحكّم بجاهل عليك أن تغلّف كلّ باطل بغلاف دينيّ” على حدّ قول ابن رشد.
فالمطلوب معروف! وهو التّقارب، والتّلاقي، والتّحاور، والعقلنة. لأنّ الله يخاطب الإنسان في عقله. وثمّة نصّ دينيّ إسلاميّ على ما يروي العلاّمة السّيّد حسين فضل الله، يؤكّد أنّ العقل رسول من داخل كما أنّ الرّسول عقل من خارج؛ وهيغل بدوره يقول “كلّ عقليّ هو واقعيّ وكلّ واقعيّ هو عقليّ”[1].
فلا نتحاسبنّ على أخطاء التّاريخ. ولنطهرنّ الذّاكرة والأفئدة من شوائب الأيّام الغابرة. كلّنا في سفينة بشريّة مشرقيّة واحدة. إنّه لمن الانتحار بمقدار أن نتناحر في وسط السّفينة، أو أن يحاول أحدنا ثقبها ثأرا أو كيديّة فنغرق كلّنا لأجل الجهل. فلنعد النّظر بعظة الأحد وخطبة الجمعة ومجالس ليلة الخميس. ولنخاطبنّ عقول النّاس لا مشاعرها. فالفتن التي تتخفّى في عباءات الدّين ورجاله تجارة رائجة جدّا في أزمنة التّقهقر الفكريّ للمجتمعات.
المسيحيّة تحمل السّلام إلى العالم. كما جاء الإسلام دينا للسّلام بين شعوب الأرض، وقد أوصى نبيّ المسلمين جيشه: “إنطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولاطفلا صغيرا ولا امرأة… وأصلحوا وأحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين”… و”القتال كُرْهٌ لكم”. فالمنهج تجاه الحروب هو تجنّبها قدر المستطاع، لأنّها استثناء، وإن حصلت فعلى المسلمين الصّبر والثّبات وعدم التّجاوز[2]. ألم يقل القرآن الكريم: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (سورة البقرة 208)! “فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السّلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا” (النّساء 91). “وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكّل على الله” (الأنفال 10). فما ذنب معلولا إذاً، وما خطيئة بعض الكهنة الذين خطفوا في بلاد الشّام أو نُحروا؟ وما ذنب الأسقفين المخطوفين؟ وما هو ذنب الرّاهبات التّقيّات؟ ولم الإسلام الوسطيّ صامت؟ وأين تطبيق الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (البقرة 62) وأين هم من خطبة نبيّ المسلمين، التي أوصاهم فيها يوم حجّة الوداع، قائلا: “يا أيّها النّاس، ألا إنّ ربّكم عزّ وجلّ واحد، ألا وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على أعجميّ، ألا لا فضل لأحمر على أسود إلاّ بالتّقوى”[3]. ممّا يتوافق مع ما جاء في نصّ المجمع الفاتيكانيّ الثّاني أنّ “كلّ الشّعوب جماعة واحدة ولها أصل واحد لأن الله هو الذي أسكن الجنس البشريّ بأسره على وجه الأرض كلّها”[4].
خاتمة
اختزل مارتن لوثر كينغ (Martin Luther King) العنف في ثلاث نقاط مختلفة: الأولى هي توجّه اللاعنف الخالص الذي لا يستطيع اجتذاب جماهير غفيرة بسهولة لأنّه يتطلّب انضباطا وشجاعة فائقتين؛ والثّانية هي العنف الممارس دفاعا عن النّفس الذي تقبله كلّ المجتمعات، من أشدّها بدائيّة إلى أرقاها ثقافة وتمدّنا، كسلوك أخلاقيّ وقانونيّ، ولم يحدث قطّ أنْ دِينَ مبدأ الدّفاع عن النّفس حتّى عندما يشمل استعمال الأسلحة وسفك الدّماء؛ وغاندي نفسه أجاز هذا السّلوك بالنّسبة إلى الأشخاص غير المتمكّنين من اللاعنف الخالص. أمّا الثّالثة فهي المناداة بالعنف كوسيلة للتّقدّم، إذ يُمارَس بنحو منّظم ومقصود وعن معرفة، لأنّ القوّة الكامنة في الجماهير المتظاهرة المنظّمة اجتماعيّا أعظم من قوّة الأسلحة التي يحملها عدد من الرّجال اليائسين… إنّه عنف الإرادة الشّعبيّة التي تتّحد لتطالب بحقوقها عبر الوسائل السّلميّة الدّيمقراطيّة. أمّا نحن فيروق لنا قول الماهتما غاندي الرّائع: “اللاعنف هو أوّل أركان إيماني، وهو أيضا آخر أركان عقيدتي.”… “رماني النّاس بالحجارة فجمعتها وبنيت بيتا”.
هلّموا نبني بيت الجماعة البشريّة الواحدة بالمحبّة والسّلام. كلّنا نسعى إلى جنّة السّماء. إلاّ أنّه من الجهل بمقدار، أن ندمّر الأرض -وهي من صنع الله- لأجل الجنّة الموعودة، فنخسر الإثنين معا.
هلّموا نجعل من الأرض جنّة، متمّمين بذلك مشيئة الله كما في السّماء كذلك على الأرض.
[1] راجع، المصدر، ص 71. [2] راجع، حسين علي المصطفى، أدبيّات التّعايش بين المذاهب، بيسان للنّشر والتّوزيع، بيروت – لبنان، 2013، ص. 256. [3] راجع، محمّد سليم العوّا، الوحدة الإنسانيّة والتّعدّد الدّينيّ وجهة نظر إسلاميّة، وقائع المؤتمر السّابع والثّلاثين…، 2004، ص. 60. [4] راجع، المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، في عصرنا. بيان حول “علاقة الكنيسة بالدّيانات غير المسيحيّة”، رقم 1.زينيت