حدثان يتّصلان بفلسطين وشعبها صنعهما الفاتيكان الأسبوع الفائت. الحدث الأوّل اعتراف دولة الفاتيكان رسميًّا بالدولة الفلسطينيّة بموجب اتّفاق مبادئ بين الدولتين تمّ وضع اللمسات النهائيّة عليه. وقد أوضح المتحدّث باسم الفاتيكان، الأب فيديريكو لومباردي، أنّ هذا الأمر ليس جديدًا، إذ إنّ الفاتيكان اعترف من قبل “بدولة فلسطين منذ أن نالت الاعتراف من الأمم المتّحدة، وهي مسجّلة باسم دولة فلسطين في كتابنا السنويّ الرسميّ”. أمّا الحدث الثاني فإعلان قداسة الراهبتين الفلسطينيّتين ماري ألفونسين غطّاس، ومريم يسوع المصلوب بواردي.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ إعلان قداسة راهبتين فلسطينيّتين ليس أمرًا استثنائيًّا أو طارئًا، وليس حدثًا خارقًا يفوق الطبيعة، بل هو أمر طبيعيّ في مسيرة الكنيسة في العالم. فالقدّيسون هم الدليل الساطع على قدرة كلّ إنسان، مهما ارتكب من خطايا وآثام، أن يبلغ القداسة بمؤازرة نعمة الله. فسلسلة القدّيسين تضمّ الزناة واللصوص والقتلة وسواهم من مرتكبي الكبائر، غير أنّ توبتهم كانت عظيمة إلى حدّ محو كلّ ما اقترفوه آنفًا. القدّيسون، إذًا، هم نماذج حيّة تجعل المؤمنين لا ييأسون من رحمة الله، وبأنّهم على مثال مَن سبقوهم قادرون هم أيضًا أن يصبحوا قدّيسين. أمّا الانتفاع من سير القدّيسين فيكون باتّخاذهم قدوة للمجاهدين اليوم في سبيل بلوغ ما بلغه هؤلاء.
من النافل القول أيضًا إنّ القداسة ليست حكرًا على زمن دون آخر، أو على أرض دون أخرى، أو على شعب دون آخر. فمنذ نشأة الكنيسة إلى اليوم تتنامى أعداد القدّيسين، ولم تخلُ بقعة من بقاع الأرض من قدّيسين عاشوا فيها وشهدوا للربّ الشهادة الفضلى. وفي شرقنا عاش القدّيسون في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، وفي المدن والصحارى والجبال والوديان. كما تؤمن الكنيسة بأنّ القدّيسين المجهولين لديها يفوق عددهم عدد القدّيسين الذين قد أعلنت هي قداستهم، إذ لا يسعها أن تعرف كلّ ما يعود لله وحده معرفته.
يؤكّد الكتاب المقدّس أنّ الله وحده هو القدّوس، لكنّه يدعو كلّ إنسان إلى بلوغ القداسة في حياته: “بل على مثال القدّوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضًا قدّيسين في تصرّفكم كلّه، فإنّه كُتب كونوا قدّيسين فإنّي أنا قدّوس” (رسالة القدّيس بطرس الأولى 1، 15-16). والرسول بطرس نفسه يذهب أبعد من ذلك حين يدعو المؤمنين إلى أن “يصيروا شركاء في الطبيعة الإلهيّة” (رسالة بطرس الثانية 1، 4).
من هنا، يسعنا القول إنّ القداسة حين تُنسب إلى البشر لا تعني العصمة عن الخطيئة أو التنزيه عن الخطأ، بل هي تُنسب إلى القدّيسين لأنّهم قد أدركوا خطيئتهم فسعوا بكلّ قدرتهم وقوّتهم إلى التوبة. القدّيس ليس سوى ذاك الذي أقرّ بخطاياه وقرّر الابتعاد عنها وسلك طريق التوبة وتقدّم فيها. لذلك توجّه الرسول بولس في رسائله إلى عموم المؤمنين الأحياء مسمّيًا إيّاهم بالقدّيسين على سبيل الرجاء. القداسة هي الجهاد اليوميّ الدائم، على الرغم من السقطات الكثيرة، في سبيل عيش الخيرات الآتية في عالمنا الحاضر.
حسنٌ، إذًا، أن يحتفي المؤمنون، وبخاصّة الفلسطينيّون والعرب، بالقدّيستين الجديدتين، غير أنّ الأحسن هو أن يكون إعلان القداسة حافزًا لكلّ الشعب الفلسطينيّ كي يغدو هو أيضًا شعبًا من القدّيسين الأحياء.
رجاؤنا أن يشكّل الحدثان الفاتيكانيّان حافزًا للفلسطينيّين بعامّة، وللمسيحيّين منهم بخاصّة، يدفعهم إلى التمسّك ببقائهم في أرضهم وصمودهم فيها. ففلسطين من دونهم تنقص قداستها، بل تنعدم، ذلك أنّ القداسة لا تقيم في المتاحف والكنائس الأثريّة والمواقع التاريخيّة، ولا حتّى في قبر المسيح، إذا لم يكن ثمّة مَن يسجد ويصلّي في هذه الأماكن صبحًا وظهرًا ومساءً. فالله يحبّ السكنى، لا في الحجر ولا في الخشب، بل في القلوب التي من لحم ودم… القداسة للبشر قبل أن تكون للحجر أو للتراب، هذا إنْ لم تكن حصرًا للبشر!
ليبانون فايلز