لمناسبة مرور ست سنوات على وفاة الشاعر سعيد عقل نعود بالذاكرة الى تاريخ حافل بالإبداع في مجال الفكر وحقول المعرفة. الدكتور جوزف لبُّس هو خير من كتب في تراث هذا الكبير من لبنان. يقول :” إنّ شخصيّة سعيد عقل وأفعاله وأقواله تكاد تتّسم بطابعٍ أسطوريّ: فهو ذو ثقافةٍ أسطوريّةٍ عريضة في الأدب واللغة والفنّ واللاهوت والفلسفة، وذو اتّجاهٍ إقليميّ لبنانيّ واضح يجهر به ويفخر ويجنّد كلّ طاقاته الإبداعيّة في خدمة لبنان، وهو مانح المبدعين جوائزَ عديدة، كما أنّه قام بمحاولاتٍ جريئة للتجديد في الشعر واللغة، ويعتبره بعض النقّاد زعيم المدرسة الرمزيّة في الشعر العربيّ بلا منازع، ويقارنه بعضهم الآخر بشاعر فرنسا الكبير بول فاليري.
هذه الشخصيّة الأسطوريّة استقت بعض موضوعات أدبها من الأساطير والميثولوجيا الدينيّة والتاريخيّة؛ فقد استمدّ الشاعر موضوع قصّته الشعريّة المجدليّة (1937) من الكتاب المقدّس، العهد الجديد. وكان من قبلُ استمدّ موضوع مسرحيّته بنت يفتاح (1935) من الكتاب المقدّس، العهد القديم. قال في توطئة بنت يفتاح: «مفترض في المأساة أن يكون موضوعها عريقاً في القدم، يغطّيه غبار السنين جلالاً. فأخذتُ موضوعي من العهد القديم واستخدمته للتعبير عن أماني بلادي…
لم يتغنَّ سعيد عقل بلبنان أرضاً وحجارةً وتراباً، بل بلبنان القيم والفضائل والمجد. لبنان “أكثر من لفظة، أكثر من منظر، من ريح” …”
“ لبنان إن حكى” صدر عن دار نوفل للنشر في مطلع كانون ثاني 1984. منه استقينا ثلاث قصص قصيرة هي على التوالي : “ يوم زار يسوع لبنان”، ” القرنة السوداء” و” زارنا التاريخ”.
«الشعوب التي تفتقر إلى الأساطير محكومٌ عليها بالموت بَرْداً»
يوم زار يسوع لبنان
مرة في حياته الزمنية ترك وطنه الأرضي.
وكانت ليجيء الى لبنان،
ولكن لماذا لبنان ؟
ليس عند مؤرخه متّى جواب.
وفي مرقص نراه يطلب أن “لا يعلم به أحد”.
تراه كان تعِبًا فجاء الى أرضنا ينتجع الراحة ؟
لكَم يطيب لنا أن تكون أرضُنا بدّدت بعضًا من تجعدات على جلينه.
منذ متى تراه يعرف لبنان ؟
أواه ! إن ذلك لمتقادم في الذاكرة :
إنه لطفل يصغي في الهيكل إلى قارئ الكتاب :
أرزة في لبنان،
شامخة القَوام،
عظمتها المياه،
والقمر رفعها،
أنهارها جرت
من حول مغرسها،
ومجاريها أرسلتها الى كل أشجار الصحراء…
في أغصانها عشّشت كل طيور السماء،
وتحت فروعها وُلدت كل السباع،
وفي ظلّها سكنت كل الأمم..
السروُ لم يماثل أغصانها،
والدّلب لم يكن كفروعها.
وكل شجرة في جنة الله لم تضارْها بهجة…
فغارت منها كل أشجار عدْن،
تلك التي في جنة الله.
ويصغي :
فاغيةٌ مع ناردين،
ناردينٌ وزعفران،
قصبٌ ودارصيني،
مع كل شجر اللُّبان.
مُرٌّ وعود،
مع أفخر الأطياب،
عينُ جنّات،
وبئر ماء
وأنهار من لبنان.
وما لبنان ؟
أكثر من لفظة حلوة يجعلها الكتابُ صِنوةَ البهاء.
أكثر من منظر يلتفت اليه هو من الجليل، فإذا العين سُكنى لزهر وشربين ولبياضِ على القمم.
أكثر من ريح ليّنة تداعب وجهه فيغنّيها :
هُبّي، يا شمال، ويا جنوب، انسمي،
من رأس أمانه، أكثر من
من رأس سنير وحرمون،
من مرابض الأسود،
من جبال النمور،
من لبنان.
ويروح يشعر حيال لبنان بما هو فوق عهده الأول بكلمة الآب، وفوق قرّة العين بنسَمِ ومنظر بهيج.
ماذا ! تراه لمس يومًا أرض لبنان ؟ أو استعدّ للتماس بينه وبين سلسلتي الجبل البهي ؟
عَهْدَ كانة فتيًّا يمرح على بحيرة جنسَّر، لطالما سرّح نظره على تدفاق الأردنّ الآتي من فوق، ومما وراء فوق.
من أين، يا عمّ، ينبع هذا النهر ؟ سأل ولا بد ذات يوم رتعيًا عجوزًا.
فأجاب الشيخ :
انه ليتجمع من ذوب الثلج على الحرمون.
الحرمون ! قال هو متذكرًا.
هذا الجبل الذي ترى، المجلل كالشيخ، طوال السنة تقريبًا، ببياض صافِ. إنه إحدى سلسلتي لبنان.
لبنان ؟ أجاب مستغربًا بسذاجة، لبنانُ الكتاب ؟
نعم، لبنان الكتاب. تراه منذ هذا الحوار راح ينوي أمرًا ؟
من يدري ؟
وجُلُّ ما نعرفه أنه، يوم افتتح رسالة الألوهة في الأرض، أبى إلاّ أن يعتمد بمياه النهر الذي ينبع من احدى سلسلتي لبنان. وهكذا تكون ثلوجُنا أوّل من قصد من قصد منا اليه.
عهْدُ ذهنه بلبنان، عهدُ قبيه، بل جُماعُ روحه وجسمه، عهدٌ قديم إذن.
وإذ هو جاء الى أرض صور وصيدةن يستريح،
فعنْ سابق معرفة بجبل الطيوب : مِن حِفظِه اسمَه تهجئةً وكتابة، إلى تسريح النظر على قممه، إلى فتح الصدر لنسيمه، إلى الإغتسال بمائه يبترد.
لهذا الجبل فضلٌ عليّ، كاد يقول.
ولو أنهم اصغوا الى تمتماته لربما سمعوها.
ولسمعوه يناجي صور منذ أطلّت :
مَن هذه المشرقة كالصبح ؟
الجميلة كالقمر ؟
المختارة كالشمس ؟
المرهوبة كصفةف تحت الرايات ؟
“لم يُرد أن يعلم به أحدٌ من الناس”، يقول مرقس، ولكن الناس قصدوا اليه “فلم يقدر أن يستتر”.
هؤلاء اللبنانيون مُلْحفون في الطلب.
ليتكلمون كأصدقاء، كمن لهم عليه دالّة.
ها هي امرأة منهم تناديه :
“ارحمني، ايها الرب”.
فيتضايق التلاميذ.
فتقول :
“أغثني، يا رب”.
ولكنْ أنّى لها أن تحصلَ على شيء والخبزُ يكاد لا يكفي البنين ؟
إلاّ أنها تُصِرّ :
“ان الكلاب تحت المائدة لتأكل من فتات البنين”.
هذه المرأة، ما حاجتها ؟
هي، ليس لها حاجة.
وإنما لها بنت.
لسواها لا لها تلتمس ؟ إنها لخليقة بالإنتساب الى الوطن الذي تماها.
وما تريد ؟
مسّ الظلامُ عقلَ ابنتها، فجاءت تطلب نورًا لهذا العقل.
لا كَساءً لعُمري، ولا مسكنًا لمأوى، ولا مالاً لأعالة.
كاد التلاميذ يصيحون.
ولكنه أخرسهم، هذه المرة، بوجهه المتهلّل وعينيه الباسمتين.
اللبنانية تطلب النورَ شِفاءَ.
كالأرض في كل آن.
وتطلب منه ولو فُتاتًا من الذي تحت المائدة.
“لأجل كلامك هذا، قال،، اذهبي”. لقد، شفيت الفتاة.
وكان لها النورُ جميعًا، سخيًّا كما على المائدة.
وعندما “خرج من تخوم صور، أبى، يقول الانجيل، إلاّ أن “يُمرّ في صيدا”.
تراه أراد أن يتعرّف أكثر الى الشعب الذي كان أول من ذهب اليه، خاطرةً في كتاب، ومنظرًا حسنًا، ونسيمًا منعشًا، وماء به يعتمد ؟ والذي كان أوّل من طلب منه النور بدل المأكل والمشرب ؟
وأكيد أنه ما ترك أرض لبنان إلاّ وهو يتغنّى :
تُثمر الجبال سلامًا للشعب.
والتلال بُرّا.
عودوا إليّ فأعود اليكم.
جرّبوني بذلك،
فأفتحَ لكم كُوى السماء،
وأفيضَ عليكم بَركةً حتى لا توسع.
وتغبطكم كلُّ الأمم،
لأنكم تكونون أرضًا شهيّة.
القرنة السوداء
من الأرز يقصدون إلى “القرنة السوداء”، أعلى قمم لبنان. كثيرون انتَهول اليها واستمتعوا من علو 3083 مترًا برؤية تمتدّ إلى جبال قبرص. أمّا حكاية الحب والحرب التي تُروى عن :القرنة السوداء” فلا يعرفها إلاّ قلائل.
قصّها، آخر مرّة عام 1932، على راهبة عميقة الثقافة، رجل أوفى على الموت، ملتمسًا منها أن تكتب عليها كتابًا. الراهبة لم تفعل، سوى أنها كانت، كلّما ذكّروها بالأمر، تنحدر على خدّها دمعةٌ أشبه بلؤلؤة.
عام 635 أمر معاوية قائدَه سفيان بمهاجمة طرابلس. فامتنعت عليه. فضرب حولها حصارًا. فهزِئت به. حتى اذا طال الحصار وعمل الجوع عمله الفاجع استنجدت المدينة بامراطور بيزنطية. فبعث اليها بأسطول يَجلو أهلَها جميعًا.
جُنّ جنون الفتيان منهم. ورفضوا الذهاب، مؤثِرين الموت في مدينتهم الجميلة.
مِن هؤلاء البطل حَوزَقِيل. كان له زوجة تدعى زيزِيا، (حسناء كقلب الصبح تجلّلها غديرتان سوداوان كليْل) وطفلٌ وحيدٌ يزقزق بنيساناته الخمسة تحت شَعْرِ يتناقض وشَعْرَ أمّه ويقال من ذهب.
بعد فِتَرِ متقطعة من جدلِ وضراعة، وتهديد بانتحار، قدر حورقيل أن يقنع الزوجة بأن تذهب والطفل ومع الذاهبين. ولكنْ، فيما كانت تسلخ الولد عن صدر أبيه، قبيل ركوب البحر، هتف بها الصغير :
دعيني هنا، فقد يحتاج أبي الى من يجمع له النّبل.
فيتجدّد الجدل، وتروح زيزِيا تتوسل الى زوجها ان يستبقيها الى جنبه، تموت إن مات وتحيا ان نجت طرابلس.:
ولكن حَورقيل يأبى أن يسمع.
ولا يهدأ له بال حتى يراها تنزل الى المركب.
وفي الآخر يُخرج من جيبه شالةً من الحرير الأخضر ويلفّها على عنقها البارع :
هذه، اياكِ ان تضيع. انها حِرزٌ في عائلتنا. مسحْته أُم جَدّي على قبر المسيح. وما بقيَت معنا فنحن بخير.
قال هذا وعينا زيزِيا الجميلتان تكبران من شدة التحديق الى الشالة. وما هي حتى تنزعها من عنقها وتلفّها على عنق الولد ثم تضمّه مُغمضَة العينين.
المركب أبيض، وحده أبيض، فتذكّر حَورَقيلُ يوم عُرسه، اذ امتطى وعروسَه فرسًا وحدَه أبيض بين خيول رفاقه الحُمر والسود.
ما كاد المركب يغيب في الأفق وسط السفن والزوارق حتى هبّت عاصفةٌ أقامت البحر بعيده والقريب، ومزّقت أشرعةً في المرفأ.
ظلّ متجالدًا واثقًا بنجمة سعده.
أما تخاف ؟ سأله رفيقٌ له.
عليهما ؟ لا. انهما محروسان.
انقضت أيام، ودخل جندُ معاوية طرابلسَ الخالية إلاّ من بعض العجائز ومن البطل حورقيل.
كان شبه وحيدِ في مدينته المغلوبة. فاستشعر طعم الموت تحت أضراسه، ثم وجد نفسه خارج الأسرار، تائهًا في بساتين ما أبقى المحاصرون على غصن منها.
وعنّ له أن يصعّد في الجبل. فهو يعرف ان العمارة البيزنطية لم تبتعد كثيرًا. وقد يلمح بينها مركبًا ابيض، فيرافقه بالنظر إلى البعيد، الى قبرص بالذات. وفيما هو يتوقّل في التلال لاهثًا من تعب، مرتاحًا حينًا ودومًا غير متناسِ ان يتلفّت جهة البحر، إذا بالعاصفة تهبّ من جديد أقوى وآكل، فيتلطّى بجذع زيتونة. ولكنه لا يلبث ان يشهد الأغصان تتقصّف حوله وعليه، فيقفز الى جذع شجرة أقوى. وما هي، حتى يُبصر بشيء يتطاير في الريح المُعولة، فيمرُّ بباله خاطرٌ محيف، ولا يعود يعبأ بنفسه أيبقى حيًّا أم يموت! زيركض وراء الشيء، يرطض بعيدًا بعيدًا.
انه ليتبيّنُه الآن. هو الشالة الخضراء التي ربطتها زيزيا على عنق الولد. تراه متى التقطها سيجدُ عليها دمًا أم ستكون كلّها رسالة نعْي ؟
الريح لا تنفك تحطّ بالشالة وتشيل، ويكاد لا يقترب منها حتى تنقذف الى النهايات. فيركض ويركض ويرقض.
أيَّ قوّة أُعطيَها في القفز ؟ كم ليلةً وكم نهارًا انقضت عليه ؟ كل ما يعرف أنه لا يزال قويًّا وأنه يركض وراء شالة خضراء.
ها هو الآن على مقربة من قمّة القمم في لبنان. لطالما بلغها مع رفاقه وهو يافع. هي الآن مكسوّةٌ بالثلج, يغرق فيه إلى الركبتين فلا يأبه. وينتشل نفسه بعنف, يكفيه تشدّدًا انه سيقبض على الشالة.
قفزة، قفزتان، ثلاث ويكون فوق. ويمدُّ ذراعًا ولكنه يقع مَغْشِيًّا عليه.
عندما يستفيق يجد اصابعه قد قبضت على الشالة.
يقرّبها اليه، يشمّها، يقبلها وهو يجهش. انها هي هي، بلونها الاخضر، كما ودعها بنظراته ملفوفة على عُنُقِ الصغير.
لا دَمَ عليها، ولكنّ احدى قرانيها معقودة. فيفكّها. فاذا القرنة السوداء. انها تحتوي على خصلةٍ من شَعْر. شعر زيزيا الزوجةِ المعبودة. فيفهم انها هي التي ماتت ونجا الصبي.
ما يعمل؟ تراه سيُعطى ان يعود إلى طرابلس ينقضّ على القائد الذي كان سببًا في موت التي لا أجمل منها الّا هي؟
ها هو الآن يُدرك أنه محطّم وان الموت لن يُمهله. انه ليتجالد في عمل أخير وبعد لأيّ يسحب خنجره من نطاقه ويروح يحفر في الصخر الذي امامه على قمة القمم، بلغتهم، اللغة الآرامية، سطرًا، ثم آخر، ثم ثالثًا.
“القرنة السوداء من الشالة، يكتب، انتهت اليّ هنا.
“إن اعوزتني الحياة فعلى ولدي، هو، ان يكون بطلا.
” اعلى منا شرًا لن تكون هذه القمة”.
وحاول أن يجرَّ نفسه صوب طرابلس؛الا انه لم يبتعد كثيرًا.
وبعد أيام كان نسرٌ يجثم على جثة.
عشرون سنةً انقضت، واذا بفارس اشقر يتسلق الجبل عدد من الفرسان. فتوقفهم في ضاحيةٍ من طرابلس امرأةٌ عجوز.
إبن حَورقيل ! تقول، ابنُه أكيدًا ! منذ ثلاثين سنة شهدتُ اباك، وهو شاب، يركب مثل هذا الجشر، في مثل هؤلاء الرفقة. لكنه، هو، كان، امامه على السر أجملُ داثو نساء لبنان. حملها إلى فوق لتغمز الشمس وهي قمة القمم. انت، اين عروسك ؟!
وتطاولت العجوز بعنُقها اليه، وأكملت هامسة:
وكانت طرابلسُ لنا .
فخفض الشاب بصره. وانفجرت على عينيه دمعتان كبيرتان.
ثم لكز جواده.
كانت تتكلم على أمّي. قال لرفاقه، أمي التي غرقت في البحر. لكنها تكلمت أيضًا على شيء أعظم.
وفوق، على قمّة القمم فيما هو مكبّ على أحد الصخور يحُلُّ حروفًا بعينها عمل فيها الثلج والزمن، هاجمه نسرٌ مُسِنّ، فصوّب رفاقٌه اليه نبالَهم، فهتف بهم :
دعوه لي فقد يكون بيننا ثأر.
سوى أنه اكتفى بأن جفّل النسر.
من يدري ؟ هتف به، فقد لا تكون أنت.
ويقال أنه، عندما نظر في عيني النسر لآخر مّرة، شهد في قعرهما شيئًا قَفَّ له شعرُ رأسه، فندِم لأنه لم يمزّقه تمزيقًا.
بعد أيام كان الشاب ف دمشق في حضرة معاوية :
من أنت ؟
لبنانيّ. وُلِدت في طرابلس وعشت في بيزنطية.
وتريد ؟
أن أعود الى مدينتي مع بعض من عائلاتها.
هل لك علينا ثأر؟
ثارات.
منها ؟ سأل معاوية معجَبًا بشجاعة الشاب.
منها أنك، بعد أن جلونا عن مدينتنا، أسكنتها جالية من اليهود أولئك الذين تسبّبوا في قتل نبيِّك.
وتأثّر البطل الأمويّ للجواب وقال :
ليُؤذَنْ لهذا الفتى في الدخول الى طرابلس، هو ومَن يشاء.
كان، في المدينة، الى جنب الجالية اليهودية، حامية أمويّة يستدعون بعضًا منهاإلى دمشق، على جناح السرعة، كلما احتاجوا الى نجدة.
وبعد نصف قؤث بالضبط من فتح المدينة، أي عام 685 ومعاوية قد لقي وجه ربّه وبضُ الحامية متغيِّب في دمشق ثارتْ طرابلس.
وبعد أيام كان قائد الثورة عند عجوز الضاحية، وهو على جواد أبيض في رِفقة يركبون الخيول الحُمر والسود. فإذا العجوز قد أسنّت كثيرًا. لكنها عرفته. فقالت :
هذه المرة، معك عروسُك.
نَعَم، وسأُعرِّفها الى أبي. وسأقول له : عادت الينا طرابلس.
وتكبُر عينا العجوز :
ماذا ! حَرَقيل مختبئ فوق ؟ !
فيخنق الفارس الأشقر غصّة :
أبي لا يختبئ. ولكنه على كل حال فوق. وشَعْرُ أمّي، أيضًا، فوق، في القرنة السوداء.
فخجلت العجوز، ثم حاولت أن تعوّض، فتقدّمت من العروس تتبيّنُها مليًّا :
جميلةُ، قالت له، جميلة مثلها. لا تنسَ أن تدعَها تغمزُ الشمس وهي تشرق على قِمّة القمم.
زارنا التاريخ
ذات يوم قالت فتاة صغيرة لشاعرِ من بلادها كانت تحبّه وهو لا يدري :
هذا الليل، والصبح يكاد ينبلج، حلمتُ حُلمًا عجَبًا ولكنه جميل !
“قال… أنا ملكةُ بعرشِ وصولجان، وزارني التاريخ.
” قال… والتاريخُ، يا شاعري، لم يكن هذا الكتاب الثقيل الذي أحمله معي كل يوم من المدرسة وأروح أجهد لإدخال صفحاته في رأسي الصغير. لا وإنما كان كما يشاء الحلم امرأةً ومدينة معًا.
” قال… دخل عليّ التاريخ وأنا في قصر البلّر، مقرّي الشتوي المغمور أبدًا بالثلج، أتفرّج من داخله عتلى مفاتن الطبيعة ولا أُحِسُّ قؤصةً من برد.
“بلى كان التاريخ اثنين : صبيّة حسناء تُسمّى أوروب وكدينة قديمة تدعى بيبلوس.
“أهلا بالتاريخ، قُلت.
” قال… ويُفتَتحُ الحديث ويروح التاريخ يتطلم.
“كيف ؟ هذا، يا شاعري، ما أعجز عن نقله اليك.
“أو يكون التاريخ امرأةً ومدينة في وقت معًا، ويروخ يقُصّ القصص من فمين مختلفين، وأقدر أنا التلميذة الطفلة أن أستعيد جميع ما قال ؟
“ولكن ما لنا ولهذا. وعلى أيّ حال سأحاول.
“قال… كانت الصبية التي تدعى أورب بيضاء ولا كالغمام، بينما المدينة التي تدعى بيبلوس مباعدةً في القِدم متعدّدة القِباب شامخة. أورب هي بنت الملك أشنّار عاهل صور ذي الأولاد الثلاثة الأبطال، أولئك الذين يبعد طموحهم من أمامي حدود الوجود، وبيبلوس هي حاضرة الدين والثقافة القائمة على شاطئ ساحر فوق جلَلِ صغير، جُبَيْل له أسلاك من ذهب تمتد الى آخر الأرض.
” قال… ونظر التاريخ اليّ مقطّب الحاجبين، ورفع صوته بوجهي : كيف تدّعين، يا ملكة الزمان، أنك واقفة على التاريخ ؟
“وما هي حتى أخذته سَورةٌ من غضب، وخُيّل إليّ أن صراعًا في داخله نشِب بين المرأة والمدينة.
“بيبلوس تقول إنها أقدمُ مدن الدنيا، يتناقلون ، يقصد اليها النتاس هذا مؤرّخًا عن مؤرّخ. إنها أولى بنات ايل إله الزمن تجرّأت والنحدرت من عن أصابعه بينما كانت شقيقاتها المُدُن وجِلاتِ مرتجفات من برد.
“كان ذلك حوالى أوّل الدهر، ووالدها متّكئ يكرع الهواء في سفح لبنان.
زأورب تقول إنها كانت كل يوم تلهو في أترابها على الشاطئ، فيراها بحّارةُ المملكة فيُجَنّون. وينقلون حديث غرامهم بها الى الموج، وهذا ينقله الى شَفا المعمور.
“بيبلوس كَبُرت وأصبحت حاضرة القداسة والفكر في الدنيا، يقصد اليها الناس من الأربعة الأقطار يأخذون عنها حبَّ المغامرة.
“قال… وأهلها لم يبنوا فقط أجملَ المعابد والملاعب وقِباب الغرانيت وأعمدة المرمر تغنّي مع الريح والنور والصاعقة. لكنهم، فوق ذلك، تجرّأوا على اقتحام مجاهل السرّ، غامروا في داخل النفس، غامروا في قلب الله.
“كلّ هذا في الحُلم، يا شاعري، غي الحلم دومًا. لك أن تصدّق وأن لا تصدّق. لكنه هكذا كان.
وأورب سمِع بها إله الآلهة في الغرب. وقد يكون بطلاً سمّوه هكذا لخبرته بصُنع الآدميين من الصلصال أو بإلعاب الصاعقة على رؤوس الأصابع.
“هذا قام الى مملكة أبيها، وبحيلةِ غير بارعة خطفها وطار بها فوق أواذيّ البحر.
“ولو رويت لك، يا شاعري، قصة الحيلة، كما انفضحت لي في الحُلم، لمنعتني من إتمام الكلام.
“بيبلوس راح الناس يتلقّنون على يدها العجب، يتذوّقون جمالَ ما تُبدع الأيدي، يطرقون باب المجهول، ولكنهم خصوصًا يتعرفون الى الأشياء التي لا عهد بها في الأرض. الخوارق مثلا، “جنون الله الذي فوق عقل البشر”، كما يقول بولس. حتى لَيزعُم واحد اسمُه رعمسيس أنه “قدّم لها، كما فاخر وكتب، هدايا تفوق رمل البحر”.
“وأورب قام إخوتها الثلاثة كلٌ الى قارّة يطلبونا من البر والبحر، من البشر والآلهة. وكان لوارها حيث نزل.حد منهام أن يحمل في ركابه النار والحرف والشعر والمغامرة، يحمل ذاك الذي عاد وسُمّي المدنية يبْ
“بيبلوس المدينة قالت جديدًا، علّمت أن الآلهة ليسوا آلهة، وأن ليس هناك سوى إله أحد يقدر على كل شيء، وأن للإنسان نفْسًا تهزأ بظلمة القبر، تبقى الى الأبد.
“وارتاح الناس، ما دان أنّ لهم من يقدر على كل شيء وأنهم الى الأبد باقون.
“وأورب المرأة استوحشت، وهي في وحدتها بعيدة عن أهلها وزوجها مشغول عنها بخَلْق الناس والآلهة، وهكذا يراها الحنين الى جبَلِ فوق صور والى جنائنه المعَلّقات عند الغمام.
“ذلك ان إله الآلهة كان قد نقلها الى قارة بدائية لا مدنية فيها، قارة أشبع بقاع صفصف. ولكنه، لما رآها تكاد تذبل نضارتها وتيبس من كآبة، قال : إكرامًا لعينيك سأجعل هذه القارة الصحراوية أجمل قارات الدنيا، وباسمك أسمّيها.
“قال… ومِن يومها صارت القارة هي أورب وصارت أورب هي القارة.
“كيف ؟ هو الحُلم، يا شاعري، هو الحلم فلا تسأل.
“وذات يوم نسيت بيبلوس كلَّ شيء عن تاريخها إلاّ فصلاً واحدًا.
“كانوا على أرضها قد ألّفوا أول كتاب عرفه العالم، فراحت جميعُ لغات المدنية تدعو الكتاب “بيبلاً” مشتقة اسمه من بيبلوس.
“كذلك لم يعد أحد يسمع بأورب، بنتِ ملك صور، وإنما بات الجميع يتكلّمون على أورب القارة التي هي نبع المدنية”.
“بلى، بيبلوس المدينة صارت الكتاب، واورب المرأة صارت المدنية”.
“وراح التاريخ أمام عرشي يتغنّى بأنه هو الكتاب والمدنية معًا. ويسمّي نفسه بيبلوس مرّة ومرّة أورب، حتى لقد حرتُ كيف يكون الإثنين معًا. ولكنه الحُلم هل أصدّقُ
الحلم ؟”
كان الشاعر يُصغي الى الصغيرة الفطنة تقصّ قصّة ليلة قضتها في صحبة الخيال.
أخيرًا قال لها :
هذه المرّة صدّقي الحلم، يا فتاتي، وإنما، على هذا الكوكب الذي يسمّى الأرض، ليس سوى اثنين : اكتاب والمدنية، بيبلوس وأورب. وكلتاهما من عندنا، من الأرض التي نَمَتْكِ. انهما سنًّا أكبر ي ملكمنك بقبيل. ذلك عندما لا تتناسين أن تكوني ملِكةً بعرش وصولجان.
“الحقيقة في الناس ؟ إنها لتَبلُغ أحيانًا حدَّ الحُلم ولا يصدقون”.
د.ايلي مخول