د. ايلي مخول
أصبح العدّ العشري اللاّ كمّي وكتابة الأرقام باستخدام ما يسمى “الأرقام العربية” سائدين في جميع أنحاء العالم. لهذا لم تختف كلّ الأعداد القديمة: في بعض البلدان الشرقية مثل مصر أو سوريا أو إندونيسيا، لا يزال يستخدم الشكل الخطّي الهندي – العربي، القريب جدّا من العدّ الهندي في القرن الخامس. فيما يخصّ الصينيين، إذا تبنوا الأرقام “العربية” في الاستخدام العاديّ، فإنهم يستمرّون في استعمال العدّ الصيني القديم بدقّة، والذي أنشئ قبل 3300 عام. وهناك أكثر من مليارآسيوي ما زالوا يتّبعونها حتى اليوم.
ومع ذلك، فإن سكّان بلاد ما بين النهرين، الذين اخترعوا الكتابة، هم الذين اتخذوا الخطوة الحاسمة: لقد ابتكروا أول نظام رقمي مكتوب في التاريخ ووضعوا أسس الحساب. لن يتم استبعاد الحضارات الأخرى. لكن الهند هي التي ستحقق تقدمًا كبيرًا من خلال إعداد التربة لعلم الرياضيات الحديثة. الملحمة لا تزال مستمرة. ألم يولد الكمبيوتر من نظرية الأعداد؟ وما زالت الأرقام إيّاها التي توشك أن تقلب رأسا على عقب مفهومنا للكون، بفضل كمبيوترالكمّ …
تُعدّ أرقامنا “العربية” جزءًا من الحياة اليومية لدرجة أننا ننسى أنها لم تكن موجودة دائمًا! لقد أوصي بها الى الغرب عن طريق العرب في القرن الثاني عشر. وهؤلاء استعاروها في القرن الثامن من علماء الفلك والرياضيّات الهنود الذين كانت لديهم، قبل ذلك بمئات السنين، فكرة مبتكرة للتعبيرعن جميع الأرقام من خلال تسعة رموز فقط. رموزأصلية، مجردّة، كلّها مختلفة عن بعضها البعض ولا تسعى، وهذا شيء جديد، إلى استحضارالوحدات التي يحتويها الرقم، بصريّا. يتم تحديد قوّة كل من تلك الرموز في الرقم فقط باسم: وحدة، مقدارعشرة، مئة، إلخ. الرقم 369، على سبيل المثال، يتكون من 3 مئات و 6 عشرات و 9 وحدات. ولكن قبل كل شيء، يربط هؤلاء العلماء هذا الرقم “العشري” بنظام “الموضع”، حيث يكتسب كل رمز قيمة مختلفة وفقًا لمكانه وحيث يتم ملاحظة كل قوة مفقودة بعلامة محدّدة، سبقت الصفر بأشواط. ثلاثة ابتكارات تقع، في نهاية الأمر، في أساس علم الحساب الحديث.
الأصل الهندي للعدّ العُشري اللاّ كمّي بالشكل الذي نستخدمه حاليا لم يعد محلّ خلاف. بالمقابل تتباين الآراء بمجرد أن يتم تحديد مكان وموعد هذا الاختراع. غير أن الخبراء يتفقون على بضع نقاط. أولاً، ان القاعدة العشريّة قد سبقت نظام الموضع. ربما هي موجودة في شبه القارة الهندية منذ العهد الفيديّ، الذي يتراوح بين 2500 و 500 قبل الميلاد. تقول كيم بلوفكر، أستاذة الرياضيات في يونيون كوليدج في نيويورك، وصاحبة كتاب مرجعي عن الرياضيات الهندية: “حيث أن الكتابة لم تكن موجودة، فقد تم تخصيص الأرقام شفهياً بكلمات سنسكريتية”. (Mathematics in India, Princeton University Press 2008).
ظهرت الأدلّة الأولى المثبّتة فقط في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، في عهد أشوكا في آن واحد مع المصادر الكتابية (أو النقوشيّة). بعد سنوات من الحروب، إعتنق الإمبراطور الثالث لسلالة موريا البوذية وأمر بنقش تعاليم بوذية مستوحاة في الأحجار والأعمدة المنتشرة في جميع أنحاء إمبراطوريته التي عاد السلام إليها. هنا، في هذه النقوش، المعبّرعنها بلغات هندية محلّة مختلفة ولكن أيضًا باللغتين اليونانية والآرامية، ومنقولة الى اللغة البرهميّة، حيث تجلّت كتابة مقطعية جديدة (مثل الخروشتي التي تعايشت معها لعدة قرون)،اكتشف الخبراء أقدم الرموزالرّقمية التي تشهد على العَدّ العشري.
في نقوش أشوكا، شأنها شأن النقوش المتأخّرة (القرن الثاني ق. م.) التي تزيّن كهفَي ناانا غات وناسيك البوذيّين في ولاية ماهاراسترا، تمت الإشارة إلى الأرقام من 1 إلى 9 من خلال رموز مستقلة ومجرّدة. أمّا أصل هذا الابتكار – مثله مثل الكتابة التي يتمسّكون بها -، فلا يزال غامضاً. اليقين الوحيد: أنها لا تشبه المقاطع البرهميّة. لذلك من الصعب أن نتخيل أنها تنتمي إلى نظام ترقيم مركّب أبجديّا (أو بالأحرى مقطعيّا) على نحو ما لوحظ في الثقافات الأخرى. ومهما يكن من أمر فإن هذا النظام هو الجَدّ البعيد لأعدادنا الحديثة.
ومع ذلك، لا يزال استخدام هذه الرموز المجرّدة محدودًا، على ما يبدو. فغالبًا ما يتم تحديد الأرقام من خلال أسمائها السنسكريتية، التي تم نسخها أولاً بالكتابة البرهمية، ثم في الكتابات المشتقة (gupta ، nâgarî)، التي نشأت عنها الكتابات الهندية الحالية. ولكن أيّا كان الإسناد، فإن كتابة الأرقام تكون بطبيعة الحال عُشرية. ينسب بالفعل اسم معيّن وعلامة مكتوبة إلى كل من الوحدات، ولكن أيضًا الى كل من العشرات، إلى مئة وإلى ألف. ويتم تشكيل الأرقام الأخرى من خلال الجمع بين هذه الأرقام والأعداد الأساسية.
إعتبارا من القرن الثالث، يشير العلماء أيضًا إلى الأرقام والأعداد كأسماء أشياء أو مفاهيم مستعارة من الطبيعة أو التقاليد الدينية. هل في الأمرغرابة؟ لا شيء من ذلك، إذ “إن النصوص السنسكريتية الكلاسيكية – بما فيها النصوص التقنية والفلكية والحسابية – كانت تتكون في أحيان كثيرة من أبيات شعرية. ومن أجل مراعاة إيقاعها مع تجنب التكرار والحفاظ على المعنى الحسابي، لجأ العلماء إلى أرقام – أشياء (أو bhûta- samkhyâ). “وهكذا، تعرّب كلمة shunya (فراغ)، bindu (نقطة )،chidra (ثقب)، kha (تجويف)، âkâsa (فضاء، سماء، أثير): eka (واحد) Inddu śaśin (قمر) أو bhû (أرض)، وهكذا.
خصوصية هذا العدّ العُشري الأول: الوحدات تسبق الأرقام العليا. اثنان وثلاثون، على سبيل المثال، تُكتب “dvâ-trimsat”،اثنان – ثلاثون”؛ واحد وستون، eka-sasti، واحد – ستون، إلخ. خاصّية أخرى هي أن قيمة عدد ما هي مجموع قيم الأرقام التي يتكون منها. وهكذا فإن كتابة 8357 تعني وضع علامات 1000 × 8، 100 × 3، 10×5 و7. هذا المبدأ “الإضافي” و “المضاعف”، المعروف جيدا لدى المصريّين واليونانيّين، هو مبدأ جميع بلدان البحر المتوسط حتى نهاية القرون الوسطى. ومع ذلك فهو مقيّد للغاية لأنه يتطلب اختراع أسماء أو رموز جديدة لكل أُسّ puissance إضافيّ. أمّا في الهند فلا يسمح بتمثيل أرقام أكبر من 99999.
متى وكيف كان هذا العدّ العشري خاضعا لمبدأ الموضع؟ أقدم إسناد يقع في نصّ مؤرخ في منتصف القرن الثالث، Yavana-jâtaka (“الطالع اليوناني”) وهو موجّه للمنجمين وعلماء الفلك. “هذه القصيدة الشِّعريّة باللّغة السنسكريتية المترجمة من اليونانية من قبل المدعو Sphujidhvaja تضمّ العديد من الأرقام المعبّرعنها باسمها السنسكريتي تتّفق صراحة ومبدأ الموضع. يمكننا إذًا أن نفترض أن المنجمين وعلماء الفلك كانوا منذ تلك الحقبة يألفونه”، على حدّ قول كيم بلوفكر. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى في أطروحة علم الكونيّات Lokavibhagah (أجزاء الكون)، التي كتبت عام 458 م. مع هذا النظام الجديد، يتم تبسيط كتابة الأرقام، وتختفي علامة الأسّ: 8357 تتم كتابته الآن ببساطة وذلك برصف 7 و 5 و 3 و 8.
بعد ذلك بأربعين عاما تم تحديد مبدأ الموقع واعتماده على يد الفلكي وعالم الرياضيات أرياباتا، مخترع الجَيب sinus(جيب الزاوية). هناك شيء جديد آخر: ففي بحثه بمجال علم الفلك عام 499 م.، يشير إلى عدم وجود أُسّ عشري بكلمة shunya السنسكريتية ومعناها (فارغ). فيساوي الأخير بنتيجة طرح عدد بنفسه. وبالتالي ب “لا شيء”، سلَف مفهوم “الرقم صفر”، أساس الجبر والرياضيات الحالية. كل هذه المفاهيم سيتناولها عالم هندي كبير آخر في علم الرياضيات والفلك، أعني به Brahmagupta في أطروحته Brahmasphuta – siddhânta، التي خطّها عام 628. كذلك هو يثبت فيها وجود أرقام سلبية.
بناء عليه يكون العدّ العُشري قد احتلّ موقعه في منتصف القرن الثالث، علامة “لا شيء”، بعد قرنين من الزمن. على أن كليهما ربما كانا قيد الإستخدام قبل ذلك بكثير دون تحديد تاريخ. ولسبب وجيه. توضح أغات كيلر، المتخصصة في تاريخ الرياضيات الهندية وعلم الفلك بجامعة باريس – ديديرو: “الأدلّة المكتوبة لم تكن موجودة تقريبًا قبل القرن الثالث السابق للميلاد”. كما ان الظروف التي بموجبها ظهر هذا المبدأ وتسمية Shunya لا تزال غامضة. في كتابه “التاريخ العالمي للأرقام”، يقول جورج إفراح إنهما قد يكونان ناجمين عن استخدام العدّادات، وهي لوحات حسابيّة حيث يقع كل أُس puissanceفي جدول (صفّ أرقام)، والوحدات هذه المرة على اليمين. مع نظام كهذا، يكون العدّ الوضعيّ فعليًا لأن كل جدول يطابق أسّا محدّدا. بالإضافة إلى ذلك، يقابل غياب الأسّ بجدول فارغ. وبنقل هذا النظام إلى الكتابة، قد يكون الهنود أدخلوا shunya لملء الفراغ الذي أصبح في منتهى الغموض. لسوء الحظ، لا شيء يدعم هذه الفرضية، لا بقايا أثريّة ولا كتابيّة. والحال أن أمثال تلك العدّادات تعيد الى الأذهان الألواح المسطّحة المستخدمة في الصين منذ الألف الأوّل قبل الميلاد. “كان الهنود قادرين على تعلّم كيفية التعامل مع الحجّاج البوذيّين أو المسافرين الصينيين. وأمكنهم أيضا تطويره بأنفسهم. لكن لا شيء يؤكّد ذلك”، تقول كيم بلوفكر في التاريخ العالمي للأرقام، 1994. (L’Histoire universelle des chiffres, 1994)
أغلب الظنّ أن ظهور الجائينيّة (مذهب هندوسي) حوالى القرن السادس ق. م. قد لعب دورًا لكنه لا يزال من الصعب إدراكه. هذا التيار الديني الذي نشأ، مثل البوذية، كردّ فعل ضد هيمنة الفيديّة ( Les VEDA، هي مجموعة من أربعة أشعار كتبت بالسنسكريتية ومثبتة بين العامين 2500 و 500 ق. م.)، أعطى في الواقع أهمية كبيرة للرياضيات، حيث أن علم الكونيّات الذي هو من صلب تعاليمها كان مهيّأ جيدا، وكان الجائينيّون بحاجة إلى إعطاء الأبعاد المكانية والزمانية للكون وحدات بعيدة المدى وزمانية هائلة، تقاس بالملايين لا بل بالمليارات. ربما توصّلوا بشكل طبيعي إلى تبسيط كتابة الأرقام والتخلص من أسماء إساس الرقم عشرة والإبقاء فقط على الأعداد بالترتيب. “أولئك العلماء عرفوا النظام اللاّ كمّي الأساسي 60 للبابليين. تقول كيم بلوفكر: “كان ذلك مصدر إلهام لهم لتطبيقه على عدّهم العُشري”. هنا أيضا لا يتعدّى الأمر كونه فرضية. لكن المؤكد هو أن علماء الرياضيات وعلماء الفلك الجائينيّين كانوا أوّل من اعتمد العدّ العشري اللاّ كمّي الذي سمح لهم دون غيره بكتابة أرقامهم الهائلة مع تبسيط العمليات الحسابية بشكل كبير.
أخيرًا نتساءل ما اذا كان هذا العدّ مجرّد جانب واحد فقط من الرياضيات العلمية أو ما إذا كان يلبّي الاحتياجات الخاصة للمجتمع. تقول أغات كيلر: “ان عدم وجود نصوص مكتوبة لا يسمح لنا بمعرفة ذلك”، لكن هذا العدّ في غاية الفاعليّة لإجراء حسابات ذهنيّة سريعة مع ألعاب بصريّة، كما يفعل هواة “الرياضيات الفيدية” حتى اليوم. وبالتالي فمن المحتمل أن الإدارة، التجار وغيرهم كانوا يستخدمونها. لكن منذ متى؟ نحن نجهل ذلك. ”
إذا بقيت أصول العدّ العُشري محاطة بالغموض، فإن مصيره يظلّ إستثنائيا. ويكون العلماء العرب هذه المرة هم الفاعلون الرئيسيون.