أجرى قداسة البابا فرنسيس مقابلته العامة مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس واستهل تعليمه الأسبوعي بالقول أريد اليوم أن ننظر إلى الرجاء المسيحي إزاء واقع الموت، واقع تميل حضارتنا المعاصرة أكثر فأكثر إلى إلغائه. هكذا، عندما يصل الموت إلى من هو بقربنا أو إلينا نجد أنفسنا غير مستعدّين، لا نملك “اللغة” المناسبة لوضع مسودَّة لكلمات ذي معنى حول سرّه الذي يبقى. وبالرغم من هذا مرّت العلامات الأولى للحضارة البشريّة من خلال هذا اللغز، ويمكننا القول إنَّ الإنسان قد ولد مع تكريم الأموات.
تابع الأب الأقدس يقول لقد تحلّت حضارات أخرى، قبل حضارتنا، بالشجاعة لتنظر إلى الموت وجهًا لوجه. لقد شكّل حدثًا يخبره المسنّون للأجيال الجديدة، كواقع لا مفرَّ منه يجبر الإنسان على العيش من أجل شيء مطلق. يردّد المزمور التسعين: “علّمنا كيف نعدُّ أيامنا فننفُذَ إلى قلب الحكمة” (الآية 12). كلمات تعيدنا إلى واقع سليم إذ نطرد عنا هذيان العظمة. نحن كـ “عدم” يقول مزمور آخر؛ أيامنا تجوز مسرعة: حتى لو عشنا مائة عامًا فسيبدو كلُّ شيء كنفس بالنسبة لنا.
هكذا يكشف الموت حياتنا، أضاف الحبر الأعظم يقول، يجعلنا نكتشف أنَّ أعمالنا، أعمال الكبرياء والغضب والحقد كانت تافهة؛ وندرك بمرارة أننا لم نحبّ بشكل كاف وأننا لم نفتّش عما كان جوهريًّا، ونرى الأمور الصالحة التي زرعناها: العواطف التي من أجلها ضحّينا والتي تمسكنا الآن بيدنا. لقد أنار يسوع سرّ موتنا؛ بتصرّفه يسمح لنا أن نشعر بالألم عندما يغيب شخص عزيز علينا. لقد “جاش صدره وَاضطَرَبَت نَفْسُه” أمام قبر صديقه لعازر و”دمعت عيناه” (يوحنا 11، 35). في موقفه هذا نشعر أن يسوع قريب منا جدًّا وبأنه أخونا. عندها صلّى يسوع إلى الآب، نبع الحياة، وأمر لعازر أن يخرج من القبر، وهذا ما جرى. إنَّ الرجاء المسيحي يستقي من هذا الموقف الذي يأخذه يسوع إزاء الموت البشري: إن كان حاضرًا في الخليقة، فهو ثغرة تُفسد مخطط محبّة الله ويريد المخلّص أن يشفينا منه.
تابع البابا فرنسيس يقول تخبرنا الأناجيل عن أب كانت ابنته مريضة جدًّا فتوجّه إلى يسوع بإيمان ليخلِّصها. ما من صورة مؤثِّرة أكثر من صورة أب أو أم مع ابن مريض. ذهب يسوع فورًا مع ذلك الرجل الذي كان يُدعى يائيرس؛ وفيما هم سائرون وَصَلَ أُناسٌ مِن بيت يائيرس يقولون: “اِبنَتُكَ ماتَت فلِمَ تُزعِجُ المُعَلِّم؟”، لكنّ يسوع قال له: “لا تَخَف، آمِن فقط”. لقد كان يسوع يعرف أنَّ ذاك الرجل مُعرَّض للتصرُّف بغضب ويأس لأنَّ ابنته قد ماتت ولذلك طلب منه أن يحافظ على الشعلة الصغيرة متَّقدة في قلبه أي الإيمان. “لا تَخَف، آمِن فقط، لا تخف، حافظ على تلك الشعلة مُتَّقدة!”. ولما وصلوا إلى البيت أقام الصبيّة من الموت وأعادها حيّة إلى أحبّائها.
أضاف الأب الأقدس يقول إنَّ يسوع يضعنا على “قمّة” الإيمان هذه. يواجه مرتا التي كانت تبكي موت أخيها لعاز بنور العقيدة: “أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحيا وكُلُّ مَن يَحيا ويُؤمِنُ بي لن يَموتَ أََبَداً. أَتُؤمِنينَ بِهذا؟” (يوحنا 11، 25- 26). وهذا ما يردّده يسوع لكلّ فرد منا في كل مرّة يأتي الموت ليمزّق نسيج الحياة والعواطف. هنا نجد حياتنا بأسرها، بين منحدر الإيمان وهاوية الخوف، ويسوع يقول لنا: “أنا لست الموت، أنا القيامة والحياة، أتؤمن بهذا؟” ونحنا الموجودين اليوم هنا في هذه الساحة هل نؤمن بهذا؟
تابع الحبر الأعظم يقول نحن صغار وضعفاء أمام سرّ الموت، ولكنها نعمة كبيرة لنا إن حافظنا في تلك اللحظة على شعلة الإيمان متَّقدة في قلبنا! سيمسكنا يسوع بيدنا، كما أمسك ابنة يائيرس، وسيكرّر مرّة أخرى: “طَليتا قوم! أَي: يا صَبِيَّة أَقولُ لكِ: قومي!”، سيكرّر هذه الكلمات لنا ولكل فرد منا: “قم وأنهض!”
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول أدعوكم الآن كي تغمضوا أعينكم وتفكّروا في تلك اللحظة، لحظة موتنا. ليفكّر كلٌّ منا بموته وليتخيّل ماذا سيحصل في تلك اللحظة عندما سيمسكنا يسوع بيدنا ويقول: “إنهض! تعال معي!” عندها سينتهي الرجاء ويصبح حقيقة، واقع الحياة. فكّروا جيّدًا: إن يسوع سيأتي إلى كلٍّ منا ويمسكه بيده بحنانه ووداعته ومحبّته. ليردّد إذًا كل منا في قلبه كلمات يسوع هذه: “قم تعال. قم وأنهض”. هذا هو رجاؤنا إزاء الموت. للذي يؤمن هو باب يُشرَّع بشكل كامل أما للذي يشكُّ فهو بصيص نور يمرُّ عبر عتبة لم تُغلق بشكل جيّد. ولكنّها ستكون نعمة بالنسبة لنا جميعًا عندما سينيرنا نور هذا اللقاء بيسوع.
إذاعة الفاتيكان
الوسوم :في مقابلته العامة البابا فرنسيس يتحدّث عن زيارته الرسوليّة إلى بولندا