استهل فرنسيس تعليمه مشيراً إلى ما جاء في الوصايا العشر في سفر الخروج الفصل عشرين “لا يكن لك آلهة أخرى أمامي”. وأضاف أنه من الأهمية بمكان أن نتوقف عند موضوع عبادة الأوثان، لافتاً إلى أن هذه الوصية تمنع صنع الأصنام أو الصور كما أن كل الأشياء يُمكن أن تتحوّل إلى أوثان. وهذا الميل البشري، مضى البابا إلى القول، يعني المؤمنين والملحدين على حد سواء. وأشار إلى إن المسيحي يمكن أن يطرح على نفسه السؤال التالي: من هو إلهي؟ أهو الحب الواحد والثالوث أم هو صنمي أو نجاحي الشخصي حتى داخل الكنيسة؟ وذكّر فرنسيس بما جاء في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية “إن عبادة الأوثان ليست مرتبطة فقط بالعبادات الوثنية الكاذبة. بل هي تبقى تجربة دائمة للإيمان وتقوم على تأليه ما ليس بإله”. هذا ثم تساءل البابا من هو “الإله” على الصعيد الوجودي؟ وقال إنه ما يوجد في محور حياتنا وعليه يعتمد فكرنا وتصرفاتنا. وأكد أنه يمكن للمرء أن يترعرع في عائلة مسيحية إسمياً لكنها ترتكز في الواقع إلى نقاط مرجعية لا تمت للإنجيل بصلة. كما أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون أن تتمحور حياته حول شيء ما. لهذا يقدّم العالم “سوبرماركت” من الأصنام والأوثان التي يمكنها أن تكون أشياء أو صورا أو أفكراً أو أدوارا.
وبعد أن أشار فرنسيس إلى شكل من أشكال عبادة الأوثان في زماننا الراهن ألا وهو قراءة أوراق “التاروت” تساءل كيف تتطور عبادة الأوثان؟ وأجاب أن الوصية تقول: لا تصنع لك تمثالا منحوتاً ولا صورة … لا تسجد لها ولا تعبدها”. وأكد البابا أن كلمة وثن أو صنم في اللغة اليونانية تأتي من كلمة “يرى”. فالأوثان هي رؤية تميل لتصبح هاجساً، وهي أيضاً انعكاس لنا في الأشياء أو المشاريع. وهذه الديناميكية – مضى البابا إلى القول – تُستخدم في الإعلان، على سبيل المثال: إني لا أرى الغرض بحد ذاته، بل أنظر إلى السيارة أو الهاتف الذكي أو الدور أو أشياء أخرى كوسيلة لتحقيق ذاتي والاستجابة لاحتياجاتي الرئيسة. فأبحث عنه، وأتحدث عنه وأفكر به. إن فكرة الحصول على هذا الغرض أو تحقيق هذا المشروع أو بلوغ هذا المنصب، تبدو لي درباً رائعة تقود إلى السعادة أو برجاً يقود إلى السماء، وكل شيء يوضع بتصرف هذه الغاية. عندها يدخل الإنسان في المرحلة الثانية “لا تسجد لها”.
إن الأوثان تتطلب العبادة والطقوس. إذ يُسجد أمامها وتُقدم كل التضحيات. في القِدَم كان تُقدم الذبائح البشرية أمام الأوثان، وهذا ما يحصل اليوم أيضاً عندما يُضحى بالبنين من أجل المهنة، أو يُهملوا أو لا يبصروا النور. وحذّر البابا النساء من إمضاء ساعات طويلة أمام المرآة للتبرّج لأن هذا أيضا نوع من عبادة الأوثان. وذكّر فرنسيس بأن الجمال يتطلب تضحيات بشرية، والشهرة تقتضي التضحية بالذات وبالبراءة والأصالة. الأوثان تحتاج إلى الدماء، والمال يسلب الحياة، واللذة تقود إلى الوحدة. كما أن النظم الاقتصادية تضحي بحياة الناس من أجل تحقيق المزيد من الأرباح. وقال البابا في هذا السياق إن فكره يتجه إلى العديد من الأشخاص الذين فقدوا وظيفتهم بسبب شجع رب العمل. كما أننا نعيش في الرياء عندما نقول ونفعل ما ينتظره منا الآخرون لأن “الإله” الذي نعبده يفرض ذلك. فتُدمر حياة الأشخاص والعائلات، ويُترك الشبان في أيدي نماذج مدمّرة بهدف زيادة الأرباح. كما أن المخدرات هي شكل من عبادة الأوثان.
تابع البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي قائلا: نصل هنا إلى المرحلة الثالثة والأكثر مأساوية “لا تعبدها”. إن الأوثان تستعبد الأشخاص، تعد بالسعادة لكنها لا تقدّمها، فيدرك الإنسان أنه يعيش لهذا الشيء أو لهذه الرؤية لتبتلعه دوامة مدمرة بانتظار نتيجة لا يراها تتحقق أبدا. وأضاف البابا أن الأوثان تعد بالحياة لكنها في الواقع تأخذها. بيد أن الله الحقيقي لا يطلب الحياة بل يعطيها. إن الله الحقيقي لا يقدّم انعكاساً لنجاحنا بل يعلمنا أن نحب. الله الحقيقي لا يطلب البنين بل يقدّم لنا ابنه. الأوثان تقدم فرضيات مستقبلية وتجعلنا نحتقر الحاضر، لكن الله الحقيقي يعلمنا كيف نعيش في الواقع اليومي. في ختام مقابلته العامة مع المؤمنين أكد البابا فرنسيس أن التعرف على عبادة الأوثان الخاصة بنا تشكل بداية للنعمة وتضعنا في الدرب التي تقود نحو المحبة التي تتعارض في الواقع مع عبادة الأوثان. وإذا أصبح شيء ما مطلقاً وغير ملموس فيعني أنه أهم من الزوج والابن والصداقة. إن التعلّق بالأشياء أو الأفكار يعمي بصرنا أمام المحبة كما أن السير وراء الأوثان يمكن أن يحمل الإنسان على نكران أمه وأبيه وأولاده وزوجته وأعز ما لديه. وكي نحب علينا أن نتحرر من الأوثان.
إذاعة الفاتيكان