المعادلة واضحة: كلما كثُر ملح الديموقراطية، كلّما قلّ فساد السلطة. والعكس صحيح. لكنّ السؤال الأساسي: إذا فسُد الملح، فبماذا يُملّح؟ وكان الراحل الكبير غسان تويني قد عبّر عن ذلك، في إحدى افتتاحياته حين كتب أنّ عدم الكشف عن الفساد هو شكلٌ من أشكال الديكتاتورية المقنّعة! مناسبة الكلام عمّا سبق المضمون الفاضح للتقريرين الذين نُشرا في “النهار”. الأول يُشير الى أنّ الفساد في الجمارك يصل الى 1,9 مليار دولار من البضائع غير المصرّح بها، و195 مليون دولار رُشى للموظفين لتسهيل مرورها (2016/2017). والثاني – نقلاً عن وزير الاقتصاد المستقيل (ويا ليته لم يستقل في ضوء مؤهلاته ونزاهته…) بأنّ الفساد يكلّف الدولة اللبنانية 15 مليار دولار سنوياً، منها 5 مليارات خسائر مباشرة (13/08/2016) ثمّة ملاحظات حول الفساد في لبنان استعرضها بإيجاز في هذه العجالة:
1) أن قضايا الفساد في بلاد الأرز ومعظم الدول النامية – على عكس ما هو حال الدول المتقدمة الديموقراطية – تبدأ كبيرة ثم تأخذ بالانطفاء رويداً رويداً وكأن شيئاً لم يكن. ولعلّ أسطع مثال على ذلك، ما سُمي فضيحة الإنترنت غير الشرعي. فلقد خَفُتَ الحديث عنها بعد الضجيج الذي رافقها، علماً أنّ ما سُرّب من أسماء يُشير الى تورط كبار القوم. بالطبع هناك فضائح فساد مماثلة، لكنني أٌشرت الى آخر العنقود!
2) أنّ قضايا الفساد تكبروتزداد ككرة الثلج يوماً بعد يوم،من دون رقيب أوحسيب، بحيث أنّ موضوع الفساد أضحى، وياللأسف، أمراً طبيعياً ومقبولاً. لكن ما يشي بالأمل بروز جماعات مدنية، كحملة “بدنا نحاسب” وغيرها تُلاحق قضايا الفساد وتعلنها. وهذا مؤشر جيد بالرغم من محدودية تأثير تلك الجماعات.
3) الملاحظ أيضأ هو الانتقال من الفساد المستتر الى الفساد المعلن. ففي الزمن الغابر والحلو، كان الفاسد يخجل من إظهار ثرائه المفاجئ، أمّا اليوم فلا أحد يكترث.
4) أنّ دور وزارة الاصلاح الاداري لايزال (والغالب أنه سيظل!) هامشياً في التحكم بالمسارالاداري في لبنان وفي وضع الامورفي نصابها.
5) غيابُ تطبيق قانون الإثراء غير المشروع. فبالرغم من كثرة الحديث عن الفساد والفضائح فلم نسمع، على سبيل المثال، أنّ وزيراً قد أحيل الى المحاكمة بتهمة الإثراء غير المشروع، بإستثناء وزير النفط السابق شاهي بارسوميان (عهد الرئيس اميل لحود) والذي اُطلق لاحقاً ممّا أثار أكثر من تساؤل. ثمّ إنّ قوانين التطهير التي أقرّت في عهدي الرئيسين شارل حلو والياس الهراوي، لم تكن ناجعة للجم الفساد (المأخذ الأساس لقانون التطهير 1964 زمن الحلو أنه لم يلحظ حق المراجعة والنقد أمام مجلس الشورى) والمضحك المبكي، أنّ ثلاثة من الذين صرفوا من الخدمة بموجب قانون التطهير في عهد الرئيس شارل حلو، أصبحوا لاحقاً نواباً ووزراء. بمعنى أنّ الشعب كافأهم بانتخابهم! أورد على سبيل المثال لا الحصر، جوزف أبو خاطر (انتخابات زحلة 1968) عبد المجيد الزين (الدائرة الثانية بيروت 1968) وزكي المزبودي (الدائرة الثانية بيروت 1971) أمّا في الوقت الحاضر، فاللافت أنّ الوزراء والسياسيين الذين تحوم حولهم شبهات الفساد، تزيد شعبيتهم بدلاً من أن تنقص!
6) إن النهش في جسد الادارة اللبنانية وعدم الحرص على الموارد العامة، والذي تقابله محدودية دورأجهزة الرقابة أدّى الى إيجاد مايمكن تسميته “الميليشيات” الادارية التي تتحكّم بالموارد العامة. فالدولة تحكم،أمّا الميليشيات… فتتحكم!
7) أنّ الحلول التقنية لن تلجم وحدها الفساد الاداري. فالمسألة أبعد من ذلك بكثير وأعمق، واصبحت تتصل اتصالًا وثيقاً ببنية النظام وميكانيكية عمله. إنها مسألة أخلاق وثقافة. ثقافة ديموقراطية تؤدي بالنهاية الى آلية سياسية واضحة ينتُج منها حرصٌ دقيقٌ على تطبيق القوانين، إضافة الى المحاسبة والمُساءلة. فلا يختلف اثنان على أنّ التدهور الاداري لايلجمه إلا الاصلاح السياسي. وأساسه شفافية واضحةجلية وديموقراطية صحيحة. وهذا ما نفتقده. فديموقراطيتنا ديموقراطية مقّيدة بسلاسل تتشكل من “عقد” طائفية، مذهبية، مناطقية،عائلية واقتصادية…
أحد المفاصل الأساسية التي تكرّس التصميم على محاربة الفساد يقع في قمة السلطة ويتدرّج الى المناصب الأخرى من تشريعية وتنفيذية وإدارية. فإذا كان رأس السمكة فاسداً فلا أمل ولا رجاء. واللافت أنّ أول رئيس استقلالي تمت تنحيته من الحكم بثورة شعببية (1952) بعدما ضجت البلاد بقضايا الفساد، ومن الأسباب الرئيسية للخصومة السياسية بين الراحلين كميل شمعون وكمال جنبلاط، أنّ الأخير طلب محاكمة بشاره الخوري بتهم الفساد، فرفض شمعون ذلك قائلاً أنّه يرفض إحالة رئيس جمهورية ماروني الى المحاكمة كي لا يُشكّل سابقة! (راجع الحوار مع قائد الجيش السابق ابرهيم طنّوس، كتاب “وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية”، نبيل المقدم، دار نلسن 2016).
وإذا سلّمنا جدلاَ أنّ الرأس هو الأساس، والقدوة، فاللافت أنّ معظم رؤساء الجمهورية حين تركوا سدّة الحكم استقروا في قصور ومنازل فخمة، لا يُمكن تبرير كلفتها إذا تمّ الاعتماد فقط على مدّخرات رواتبهم. ولعلّ هذا أيضاً ينطبق على مسؤولين وسياسيين آخرين على اختلاف مراتبهم دون استثناء. وحده، الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب كان الإستثناء. أخبرني أحد ضباط الأمن المتقاعدين، انّه كان أحد أركان فرقة المواكبة للرئيس الراحل الياس سركيس، والذي رغب بُعيد انتخابه أن يضع اكليلاً من الزهر على ضريح الرئيس شهاب وبزيارة عقيلته. الكلام للضابط: “حين دَخلتُ المنزل، افتكرت أنّ المنزل يملكه موظف متقاعد من الفئة الثالثة أو الرابعة! الأثاث كان بحالة يُرثى لها!”. أمّا أحد كبار مساعديه والذي كان بجانبه حين غادر شهاب القصر الرئاسي في صربا، فأفادني أنّ شهاب وهو يغادر القصر، التفت الى تمثال صغير للسيدة العذراء وقال: “ياعدرا متل ما دخلتْ، متل… ما خرجتْ!”. رحمك الله وندّى تربتك … أيها الأمير!
النهار