مركزية الإنسان لا المال في النظام الاقتصادي كانت من بين أهم المواضيع التي تضمنتها مقابلة أجرتها مع الأب الأقدس جريدة “Il Sole 24 ore” الإيطالية المتخصصة في الاقتصاد والمالية، تطرقت أيضا إلى مشاكل العمل والتنمية المتكاملة والهجرة وغيرها.
أجرت جريدة “Il Sole 24 ore” التابعة لرابطة رجال الأعمال الإيطاليين مقابلة مع قداسة البابا فرنسيس نُشرت اليوم 7 أيلول سبتمبر، وتطرق فيها قداسته إلى مواضيع مختلفة بدءً من علاقات الفرد بالجماعة وثقافة الإقصاء إلى عبادة المال والنظام الاقتصادي الحالي واحترام البيئة، مرورا بالعمل ومشاكله ونشاط الشركات وظاهرة الهجرة وغيرها. أكد قداسته في البداية على أهمية الجماعة والتي في إطارها تبرز مهارات الأفراد، وأضاف أن حياة المجتمع ليست محصلة الحياة الفردية لأعضائه بل هي نمو الجماعة. وانطلق قداسته من هنا للحديث عن الدمج وشمل الجميع والذي يتطلب أولا النظر إلى البشرية باعتبارها عائلة واحدة، وأضاف أنه في حال اعتبار الجماعة التي نعيش فيها عائلتنا فسيصبح من السهل تفادي المنافسة واختيار المساعدة المتبادلة. وأشار البابا في هذا السياق إلى مساهمة التقنيات الحديثة والعلوم في تسريع الأفعال، إلا أن القلب الذي هو للإنسان بالتميز هو ما يضيف عنصر المحبة إلى العلاقات وداخل المؤسسات.
وردا على سؤال حول حديث قداسته عن الإقصاء أراد البابا فرنسيس إيضاح معنى هذه الكلمة متحدثا عن ظاهرة جديدة، حيث لا يقتصر الأمر على الاستبعاد والإجحاف، فحين نمارس الإقصاء نوجه ضربة إلى علاقات الانتماء إلى المجتمع في جذورها، ومَن يتعرض للإقصاء ليس شخصا يُستغل بل هو شخص مرفوض بالكامل. ثم تابع قداسته مشيرا إلى أن اقتصادا بمثل هذه التركيبة هو اقتصاد يقتل لأنه يضع في مركزه المال ويطيعه، وحين لا يعود الإنسان في المركز ويصبح الهدف الأول والوحيد كسب المال فإننا نصبح خارج الأخلاقيات ونؤسس تركيبة من الفقر والعبودية والإقصاء. وليس هذا النموذج الأخلاقي صديقا للإنسان، حسب ما تابع قداسة البابا، حين نفقد القدرة على الانتباه إلى صرخات ألم الآخرين، أما الأخلاقيات الصديقة للإنسان فهي الحافز لارتداد نحن في حاجة إليه. وتحدث الحبر الأعظم هنا عن غياب الوعي بالأصل المشترك، بالانتماء إلى جذور مشتركة للبشرية، وإلى مستقبل علينا بناؤه معا، وأكد أن هذا الوعي الأساسي يسمح بتطوير قناعات جديدة وأساليب حياة جديدة.
هذا وأراد البابا فرنسيس التشديد على أهمية الشخص البشري في النظام الاقتصادي، فبدونه لا يمكن لأي نشاط أن يتم. وتوقف قداسته عند أهمية العمل، فهو الذي ينتج المال، مؤكدا خطأ اختيار النظام الاقتصادي الحالي أي اعتبار المال هو مَا ينتج المال، كما أن العمل، لا المال، هو ما يمنح الإنسان الكرامة. وعن البطالة في الدول الأوروبية قال قداسته إنها نتاج نظام اقتصادي لم يعد قادرا على خلق العمل لأنه وضع في المركز إلها اسمه المال. يجب علينا بالتالي، واصل الحبر الأعظم، العمل معا على أن تكون العائلات، أن يكون الأشخاص، في المركز، وتابع مشددا على مواضيع هامة بالنسبة للبعد الجماعي للشركات مثل توزيع الثروة، المسؤولية الاجتماعية، التوفيق بين أوقات العمل وأوقات الحياة، اندماج الشركة في منطقة العمل، مساواة الرجال والنساء في الأجور، القدرة على التجديد وغيرها. هذا وذكّر قداسة البابا في هذا السياق بما كتب البابا الطوباوي بولس السادس في الرسالة العامة “ترقي الشعوب” عن ضرورة أن تكون التنمية متكاملة، تعزز الإنسان في كافة جوانبه. أكد البابا أيضا قدرة الشركات على الإسهام في احتفاظ العمل بكرامته، وذلك بالاعتراف بكون الإنسان أهم الموارد بالنسبة للشركة، بالعمل من أجل الخير العام والانتباه إلى الفقراء. ثم توقف عند ضرورة احترام البيئة والأرض والاهتمام بالإيكولوجيا المتكاملة، وذلك أمام ما نشهد منذ فترة طويلة من استغلال للأرض من قِبل الإنسان بدلا من أن يكون حارسا لها. وأراد قداسته التأكيد من جهة أخرى على أن الحديث عن البيئة يعني دائما الحديث عن الإنسان، ودعا إلى تنشئة على وعي إيكولوجي جديد، ما يستدعي أساليب حياة جديدة من أجل مستقبل متناغم وتعزيز تنمية متكاملة، تقليص اللامساواة، اكتشاف الرباط بين المخلوقات والابتعاد عن الاستهلاكية.
وفي إجابته على سؤال حول الهجرة قال البابا فرنسيس إن المهاجرين يشكلون تحديا كبيرا بالنسبة للجميع، وأضاف أنه لا يمكن أن يكون هناك مستقبل يسوده السلام بدون قبول الاختلاف، بدون التضامن وبدون التفكير في البشرية باعتبارها عائلة واحدة. وتابع قداسته أنه من الطبيعي للمسيحي أن يرى يسوع في كل شخص، كما أن المسيح نفسه يدعونا إلى إيواء الغريب. وذكّر في هذا السياق بمبادرة “شارك في الرحلة” مشيرا إلى أن الرحلة هنا يقوم بها طرفان، مَن يأتي إلى بيتنا، ثم نحن حين نتوجه نحو قلوب هؤلاء كي نفهمهم ونفهم ثقافتهم ولغتهم بدون تجاهل الإطار الحالي. تحدث قداسة البابا أيضا عن ضرورة ألا نخشى مقاسمة هذه الرحلة ومقاسمة الرجاء، كما أراد لفت أنظار الشركات والمؤسسات في أوروبا إلى إمكانية الاستثمار في الدول التي يأتي منها المهاجرون وذلك في مجال التنشئة والتأهيل سواء في المدارس أو لتطوير أنظمة ثقافية، وفي المقام الأول في مجال العمل.
وكان السؤال الأخير في المقابلة التي أجرتها جريدة “Il Sole 24 ore” الإيطالية مع قداسة البابا فرنسيس حول الشعبية التي تحظى بها في إيطاليا القوى السياسية التي لا تشارك الأب الأقدس رؤيته حول استقبال المهاجرين، وأجاب البابا مشيرا إلى أن الرد على طلب المساعدة لم يكن كافيا وها نحن اليوم نبكي آلاف القتلى. تحدث أيضا عن الصمت أمام ما يحدث، مضيفا أن الله الذي يَعد المثقلين بالراحة يحتاج إلى أعيننا وأيادينا وفي المقام الأول إلى قلوبنا للتعبير عن محبة الله الرحيمة للآخِرين. ودعا البابا فرنسيس في ختام حديثه إلى عدم التوقف عن أن نكون شهودا للرجاء وأن نفتح آفاقنا بدون أن نستهلك أنفسنا في التخوف من الحاضر، وتحدث من جهة أخرى عن ضرورة أن يحترم المهاجرون ثقافة وقوانين الدول التي تستضيفهم. أشار قداسته بعد ذلك إلى الوعي بأن الاستقبال ليس أمرا سهلا خاصة وأنه يجب أن يرافَق، وحسب ما ذكر من قبل، بالحماية والتعزيز والدمج.
اخبار الفاتيكان