ونحن على قاب يومين أو أدنى من عيد الميلاد تتوجه أنظار العالم إلى مغارة المهد وإلى مدينة بيت لحم، وخاصة في هذه السنة بالذات نظراً للظروف الصعبة التي مررنا بها ونمر بها في بلادنا وفي شرقنا. ولو حاولنا قراءة قصة الميلاد اليوم في مثل هذه الظروف فنستطيع أن نفهم أن السيد المسيح قد ولد في ظروف مشابهة من الإحتلال الروماني للديار الفلسطينية، لا بل فإنه ولد في بيت لحم بالذات لأن مريم ويوسف اضطرا الذهاب إليها بسبب الأمر الأمبراطوري الذي قضى باحصاء جميع سكان المعمورة. ويبدو أن حرية المرور والحركة والعبور كانت أسهل من أيامنا لذلك استطاعت العائلة المقدسة الوصول إلى المدينة دون الحصول على تصريح عبور ودون الانتظار عند الحواجز العسكرية أو العودة منها بسبب الحصار والاغلاق. فلو أن ولادة السيد المسيح حدثت في أيامنا لوضعت مريم طفلها على “الحاجز” هذا إذا استطاعت الوصول من الناصرة إلى بيت لحم!
ويمكننا أن نفهم أيضاً بأن ظروف ذلك الزمان كانت أسهل على الرعاة اذ تمكنوا من الوصول إلى بيت لحم من بيت ساحور حيث سجدوا للطفل المقمط في المذود وقدموا له الهدايا ورجعوا فرحين وأخذوا يخبرون بما سمعوا ورأوا. أذكر جيداً بأن أهل بيت ساحور في الانتفاضة الأولى ولدى حصار المدينة أيام العصيان عن دفع الضرائب، طبعوا كرت معايدة ظريف، يشاهد فيه الرعاة ينتظرون على حاجز عسكري مكتوب عليه “ممنوع المرور” ولسان حال الرعاة يقول “نعتذر يا يسوع بأننا لن نزورك هذه السنة لأن الجنود يمنعوننا من ذلك”.
إن الأمر سيكون أكثر تعقيداً على المجوس الذين أتوا من بلاد المشرق، كما يقول التقليد المقدس، بعضهم أتى من بلاد فارس أو العراق أو الجزيرة العربية أو الحبشة أو شمال أفريقيا. فهؤلاء المجوس وصلوا إلى أورشليم وسألوا أين ولد الطفل الملك الذي رأوا نجمه طالعاً في المشرق، ولم يحتاجوا إلى جوازات سفر ولا تأشيرات دخول للحدود الأردنية أو الإسرائيلية أو المصرية، أما اليوم فإن ذلك شبه مستحيل والمنطقة مقسمة أثلاثاً وأرباعاً وأخماساً وأسداس، والأسلاك الشائكة تمزق أوصال البلاد وتفرق بين العباد. النتيجة الحتمية إلغاء هذا الفصل من قصة الميلاد والاستغناء عن الهدايا الثمينة التي قدموها للطفل يسوع، الذهب واللبان والمر. فيا أيها الملوك المجوس لا تبرحوا بلادكم ولا تتجشموا عناء السفر فالحدود مقفلة والطريق ممنوعة والمرور مستحيل.
أما عن هيرودس فحدث ولا حرج، فإنه ما زال يسرح ويمرح، بأسماء مختلفة وأشكال متعددة، فلم يتعرض لبطشه الأطفال فقط بل الرجال والنساء والشبان والزرع والضرع والبيوت المؤسسات، فإنه يصول ويجول يزرع في الأرض فساداً ويحرق الأخضر واليابس، ويغتال البهجة والفرحة والابتسامة والضحكة ويزرع الدموع ليس فقط على وجه راحيل التي تبكي بنيها وتأبى أن تتعزى، بل على وجوه أمهات وآباء فقدوا أعزاء لهم في طول البلاد وعرضها. لا بل أن راحيل المذكورة في أنجيل الميلاد أصبحت اليوم حجر عثرة لا بل خنجراً في خاصرة بيت لحم فقبرها المزروع على قارعة الطريق المؤدية من القدس إلى الخليل وسط بيت لحم أصبح ثكنة عسكرية وقلعة حصينة، ولا ترتاح حتى في قبرها الذي بدلاً من أن يكون مكاناً للصلاة والعبادة أصبح مكاناً للخصام والظلم.. ويا ليتها ماتت ودفنت في مكان آخر لما أزعجتنا بعد لآلاف السنين..!
وخوفي أن تتكرر مأساة هرب الطفل مع مريم ويوسف إلى مصر، فإن الملاك الذي ظهر ليوسف في الحلم قائلاً له: “خذ الطفل وأمه وأهرب بهما إلى مصر لأن هيرودس يطلب نفس الصبي” وعندها بدأت رحلة التشرد التي دامت سنوات إلى أن مات هيرودس فعادت العائلة المقدسة سالمة غانمة إلى الناصرة حيث عاشت بثبات ونبات. ولكنه اليوم لن يستطيع الإفلات من قبضة جنود هيرودس الذين يرابطون على الحدود، وقد يوقفونه على الحواجز العسكرية التي تحيط بالمدينة وتخنقها من كل الجهات، وإذا تم القبض عليه فإنه قد يتعرض للقتل أو السجن أو الإبعاد. فإن هذه المأساة حدثت مراراً وتكراراً معنا ومع غيرنا أيام النكبة والنكسة والانتفاضة، وحدثت في غزة خلال هذا الصيف، وتحدث الان في العراق وسورية وأكبر دليل على ذلك ملايين اللاجئين في الاردن ولبنان وتركيا وفي بقاع العالم أجمع.
لقد كان يسوع لاجئاً في أرض غريبة والكثير منا اختبر مثل ذلك منذ عقود غابرة ويختبر منذ سنوات قريبة ويتوق إلى العودة السريعة. سبحان الله، فإن التاريخ يعيد نفسه، والإنسان لا يتعلم من دروسه وعبره ويقع في نفس الأخطاء ويرتكب ذات الآثام… وما حدث مع هيرودس وخلفائه عبر القرون في هذه البلاد يتكرر أيضاً في شرقنا مع داعش ومشتقاتها التي تحمل نفس فصيلة الدم من التعصب والأرهاب والبطش والقتل والتهجير…!!!
يبدو أن رواية الميلاد الحالية قاتمة متشائمة ولكنها واقعية، ولا يمكننا أن نضحك على أنفسنا، أو نغطي الحقيقة بكلمة عذبة، فشمس الظهيرة لا تٌخفى وراء الغربال، بل تسطع بحرِّها وتبهر العيون بنورها الوهاج. ومع ذلك نقول وبأعلى صوتنا بأن الكلمة الأخيرة لم تقل بعد ولن تكون لخفافيش الظلم والظلام، فالتاريخ يعلمنا بأن الاحتلال الروماني اندثر وزال، وأن هيرودس وبيلاطس ونيرون وغيرهم من الطغاة قد أصبحت عظامهم مكاحل في مقابر التاريخ، وأن من سار على دربهم ونهج نهجهم مصيره الاضمحلال، قصر الزمان أم طال. فالكلمة الفصل هي للحق والحقيقة، للعدل والحرية، للخير والجمال، وما عدا ذلك فإن مآله الزوال.
وسيبقى طفل المغارة هو صاحب العيد، وسيبقى نائماً ناعماً هانئاً في حضن أمه مريم، وسيبقى القديس يوسف حارسه الأمين، وسيزوره الرعاة والمجوس من بيت ساحور وبيت جالا والقدس ورام الله والناصرة وعمان وبغداد وباريس ومن كل بقاع الأرض من الجهات الأربع، وستبقى بيت لحم رمزاً وعنواناً لميلاد أمير السلام وستبقى سماء بيت ساحور مسرحاً لنشيدد الملائكة “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام”.
فها البشرى القديمة الجديدة المتجددة تأتينا من أشعيا النبي: “الشعب السالك في الظلمة، أبصر نوراً عظيماً، الجالسون في بقعة الموت وظلاله، أشرق عليهم نور، كثَّرت الأمة وفَّرت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد، لأن نير مشقتها وعصا كتفها وقضيب مسخرها، قد كسرتها.. إذ كل سلاح متسلح في الوغى، وكل ثوب ملطخ بالدماء، يصير ضراماً ووقوداً للنار… لأنه قد وُلِد لنا ولد، أُعطي لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه، ودُعيَ اسمه، مشيراً عجيباً، إلهاً جباراً، أبا الأبد، رئيس السلام. لنمو الرئاسة ولسلامٍ لا انقضاء له من الآن وإلى الأبد”. (أشعيا 9:2-7)
هذا هو أملنا ورجاؤنا، هذا هو نداؤنا ودعاؤنا: “يا أمير السلام امنح بلادنا السلام” وهذه هي الصلاة والصرخة التي أسمعها كل يوم في كل مكان من كل إنسان. وهذا دليل على الشوق والتوق والظمأ والانتظار والرغبة الحارة والحارقة في نفس كل واحد منا بأن أعظم نعمة يمكن أن يمنحنا إياها الله في عيد الميلاد هذا ومع السنة الجديدة هي نعمة السلام بين الأنام في أرض السلام. فيا أمير السلام أمطر علينا سلام وأمنح بلادك السلام. ونقولها مع صوت ماجدة الرومي الرخيم: “يا نبع المحبة وحدك ساكن قلبي، لا تتخلى عنا، عينك ع وطننا بالأيام الصعبة”.
الأب رائــد أبــو سـاحلية
مدير عام كاريتاس القدس
عن أبونا