على تلّة من تلال جبل عامل، تقع قلعة تعود إلى ما قبل الحروب الصليبية بسنوات عديدة، شامخة تتحدى الغزاة منذ بدء التاريخ، دارت فيها حرب الحضارات قديما، بنيت ودمرت مرات، استخدمت كحصن لسد الثغرات، وتعتبر من أروع القلاع التي بناها الصليبيون، أعلى منحدر صخري شاهق يقع على علو كيلومترين من مجرى نهر الليطاني، شهدت على مرور الحضارات اليونانية، الرومانية، العربية والاحتلال الصليبي… هي قلعة شقيف أرنون الجنوبية أو ما يطلق عليها Beau fort وهو الحصن الجميل.
تبعد قلعة الشقيف حوالي كيلومتر عن أرنون، وهي تشرف على نهر الليطاني وسهل مرجعيون ومنطقة النبطية، وتطل على سوريا وتشرف من الشمال على فلسطين، وهي كغيرها من القلاع، بدأت كبرج صغير في عهد الفينيقيين قبل الميلاد وتطورت على يد الرومان والصليبيين ورممها فخر الدين المعني الثاني في عهده، إلى أن أصبحت قلعة عظيمة العام 1982.
بعد التحرير العام 2000، شهدنا إهمالاً لهذه القلعة، فعراقة القلعة حضّتنا على إجراء تحقيق حول أسباب إهمالها والأسباب التي أدت الى تأخير إعادة ترميمها، ونشهد إعادة لترميم هذه القلعة ولو جاءت متأخرة.
موقع عسكري
يؤكد رئيس بلدية أرنون فواز قاطبي أهمية هذه القلعة واعتبارها من أهم المعالم السياحية في لبنان من حيث موقعها الاستراتيجي الجغرافي المطلّ على الساحل وفلسطين وسوريا وموقعها التاريخي الذي شهد على حروب عدة.
تعرضت القلعة للتخريب من جيش الاحتلال الإسرائيلي ،فتم قصفها مرات عدّة قبل اجتياح العام 1982، ثم استخدمت كمركز عسكري من جانبهم. ومن ثم قام الإسرائيليون بتفجيرها في العام 2000، وأعادوا قصفها في حرب 2006. وعملت قوات الاحتلال بجهد لتدمير معالم هذه القلعة، حيث تداعت وتشققت جدرانها بسبب تحرّك الآليات العسكرية داخل حرمها، وأدت الغارات والقصف المدفعي إلى تدمير البرج الرئيسي والجدران الخارجية للقلعة خلال حقبة الاحتلال، ما أدى إلى تغيير شكلها الهندسي.
أما الخندق الذي حفره الصليبيون، والذي يهدف إلى تأمين مركز دفاع عن القلعة فردمه الإسرائيليون أولاً بالاسمنت ثم شيّدوا تحصينات في داخله.
وقبل الانسحاب كان جيش الاحتلال الإسرائيلي ينوي تفجير المنشآت داخل الخندق، ما كان سيؤدي حتماً إلى تدمير الموقع، لكن التوسط عبر اليونسكو أدى إلى تغيير في طرق التفجير التي أدت إلى زيادة التصدّع في الجدران.
ويشير فواز الى أنها كانت مقصداً سياحياً قبل الأحداث اللبنانية، ولكن بعدها لجأت المنظمات الفلسطينية والأحزاب اللبنانية، لتحويل القلعة الى موقع عسكري، ما أدى الى قصفها من الطيران الاسرائيلي مرّأت. وفي رأيه “تعبّر القلعة تعبيراً صادقاً عن المقاومة الفعلية التي ضمّت كلّ الأطراف الذين شاركوا في المقاومة”، وسقط لهم شهداء، من الحزب الشيوعي، والحزب القومي، وحزب الله، وحركة أمل ومن كل الأحزاب العربية.
حدودها
للقلعة مدخل واحد من الجنوب، وشكلها مثلث الزوايا، وقياسها 160 مترا طولا و100 متر عرضا، تحيط بها من بقية جهاتها آبار محفورة في الصخر، ويحميها من الجهة الشرقية مجرى ماء مهيب يسمى نهر الليطاني تسيل مياهه في واد عميق، وفي الجنوب خارجا يوجد حوض في الصخر، وفي الغرب صهاريج وأحواض جمة في الصخر الصلد مسقوفة بعقود حجرية. وفي الشمال حوض قسم منه في الصخر، وقسم عليه بناء. وجدرانها المحيطة بها منحدرة وفي داخل القلعة أحواض كثيرة كان يجمع فيها من المياه ما يسد حاجة المحاصرين فيها.
وهي محاطة من الجنوب ومن الغرب بهوة عميقة محفورة في الصخر عمقها 15 مترا إلى 36 مترا.
أما من الجنوب فقد تتصل القلعة بذروة الجبل، ومدخلها الى الجنوب الشرقي وطولها 120 مترا وعمقها 35 مترا. ومن طرفها الشمالي بناء ناتئ طوله 21 مترا متجه الى الشرق. فناؤها في الجهة الشرقية عمقه نحو 16 مترا، ومثله الأبنية الخارجية، ولها انحدار يختلف من ستة إلى تسعة أمتار. وقد قام على الحائط الجنوبي برجان على شكل نصف دائرة. أما القلعة، من حيث البناء، فهي مستطيلة وضيقة جدا وفق طبيعة الأرض التي بنيت عليها، ولا يوجد تناسب هندسي بين طولها وعرضها. وأما حجارتها فكلها مربعة الزوايا، إلا انها ليست كبيرة كالحجارة في القدس وبعلبك ولا مُحْكَمَة النحت، ومن جهة الوسط الحجر نافر وغير منحوت.
تعود من جديد
قاطبي، بعد سؤالنا ما هي الأسباب التي أدت الى إهمال هذه القلعة كل هذه السنوات قال “أنه بعد سنة التحرير، بدأت الدراسات من الفرنسيين لاعادة ترميم القلعة وذلك بسبب مدى أهميتها، وكلّفت هذه الدراسات حوالي 3 ملايين دولار، وأذكر عام 2001 جاء الفرنسيون وسكنوا في الضيعة حوالي العام، وقاموا بفحص كل حجر. والدراسات استمرّت حوالي 5 سنوات. فكان هناك تأخير أو اهمال بسيط الى أن حظيت القلعة باهتمام الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، بعد زيارة السفير الكويتي لها في العام 2007، ووضع حجر الأساس، بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية ومجلس الإنماء والإعمار، لترميمها وتأهيلها حتى تنعم باستقطاب السياح إليها ليشهدوا تاريخها العريق، ولتكون معلماً ثقافياً وسياحياً، ورمزاً للصمود والتحرير.
واليوم، ها هي قلعة الشقيف تعود من جديد وبحلة جديدة، قديمة، لتصبح معلماً سياحياً مهماً في قلب الجنوب اللبناني، وفق ما قال رئيس البلدية فواز قاطبي ان تسليم القلعة سيكون في نهاية حزيران الجاري، ليبدأ هنا دورهم كبلدية لتنظيم القلعة، واقامة برامج لاستقبال الناس وتسهيل دخول السيارات إليها.
مراحل تنفيذ الترميم
المهندس المسؤول عن ترميم القلعة علي حايك، شرح لنا مراحل التنفيذ من بعد التحرير حتى اليوم، ولفت الى ان الدراسات لاعادة ترميم هذه القلعة بدأت مباشرة بعد التحرير، هذه الدراسات تأخذ الكثير من الوقت خاصة أنها تتعامل مع بناء أثري، فهناك صعوبة ودقة أثناء العمل فيها. فسنة 2000 عملت مديرية الآثار مساراً للزوار، مثل درج للصعود من الطبقة السفلية الى العلوية، وذلك بسبب قصف القلعة أعوام 1978، 1982، وأيضا السنة 2000، فكانت في معظمها مدمّرة ومتداعية، فمن وقتها بدأ التفكير باعادة ترميها. فمديرية الأثار من ذلك الوقت بدأت بالدراسات لترميمها.
فبدأ التنفيذ أواخر السنة 2010، وكما ذكرت سابقا، العمل هو عمل دقيق وصعب، وهو مختلف تماما عن باقي الأشغال، حيث الحجر أو كسرة الفخار الذي نراها لأول مرة، يأتي مباشرة خبراء معنيون ويقومون بدراستها.
ولفت حايك الى أن المطلوب اليوم هو فقط، عملية تنظيف القلعة فـ 90% من الأشغال هي عملية ترميم أثري، أي ازالة الردميات الأثرية وتدعيمها، إضافة الى أن الترميم كان 10% لأربع – خمس أماكن في القلعة فقط مثل برج القلعة، والأدراج، ولاحقا ان كان هناك مراحل جديدة ستقتصر على شق الترميم أكثر من شق التدعيم حيث القلعة اليوم باتت آمنة 100%.
وكشف حايك، بأنه تمّ العثور على أثارات جديدة داخل القلعة، لم يكن هناك أحد يتكلم عنها ، فتم العثور على 8 جثث في الطبقة السفلية من القلعة، وطبعا جاء الخبير وتمت دراسة هذه الجثث فتبين أن احداها تعود الى 800 سنة. وأيضا تم العثور على مجموعة كبيرة من الغليون وبعض الغرف التي كانت مخفية تحت الردم. وتتضمن القلعة نظام تصريف مياه الأمطار،وهذا النظام قديم جداً ورائع ومن أروع الآثار الباقية، أنابيب محفورة بداخل الصخور بطريقة لا تؤثر على الأحجار داخل القلعة. وختم بأنه سيتمّ تسلم القلعة في 30 حزيران من العام الحالي.
حسن عجمي / النهار