وجدت بين أوراق السفير فؤاد الترك رسالة مؤرخة 5 أيار 1978، بعنوان “كأنها اليوم”، أرسلها المطران إيلاريون كبوجي الى الترك، وكان يومها سفيراً في الأرجنتين، ننشرها لما تحتوي من مرمى ومغزى.
“… ومن أسباب غبطتي الليلة وجود سفير لبنان أخي وصديقي فؤاد الترك بيننا في هذا اللقاء السعيد والذي تشاء الصدف ان يكون ابناً روحياً عزيزاً لي.
وأودّ أن اغتنمها مناسبة لأؤكد ما سبق وقلته في تصريحات وخطب سابقة.
فيا أخي فؤاد،
قل لهم في لبنان انه حبي لا يغيب عن صفحات فؤادي، فأنا احمل الهوية اللبنانية واني لفخور بها، ووالدتي تعيش في لبنان وأمضيت جزءاً كبيراً من حياتي فيه وهو البلد الغالي على روحي.
قل لهم إن قلبي كان ينفطر حزناً وألماً عندما كانت تصلني أخبار المأساة التي عاشها اللبنانيون والفلسطينيون خلال تلك الحرب القذرة والأيام السوداء.
إنه لبنان يجسَّ المحبة وأنا أحب لبنان لأنه صورة من الله وإذا كنت لا أحب لبنان فهذا يعني أني لا أحب الله. لبنان هو بلد الله وهو قطعة منه ونريده ان يعود كما عهدناه سماء على الأرض.
ولبنان هو عضو لا يتجزأ من جسم العالم العربي وهو بهذه الصفة كالعضو في جسم الإنسان إذا تألم هذا العضو تألم الجسم كله، فالتاريخ والجغرافيا واللغة والمصير المشترك تربطه بعالمه العربي صلات ووشائج لن تنفصم عراها على الدهر بإذن الله.
انه لبنان. هو لبناني. وهو عربي. وهو انساني كوني. وكونه كذلك تمكن على مر السنين ومر تاريخه الطويل ان يعوّض عن صغر مساحته وعدد سكانه بأن يجعل من نفسه بلد التعايش وبلد تلاقي الأديان والثقافات وبلد المحبة والسلام، باعثاً لنهضة العرب وجامعاً لشملهم وموحّداً لصفوفهم ومركزاً لاصطيافهم وراحتهم. انه بلد الحرية وهو النافذة التي تطل على العالم بأسره شرقاً وغرباً.
وإن كل لبناني يجب أن يكون ككل اللبنانيين لا لطائفة ولا لدين فمن يدعو إلى تقسيم لبنان خائن هو، ومن يدعو إلى توطين الفلسطينيين في لبنان خائن هو. لبنان المسيحي ليس لبنان ولبنان المسلم ليس لبنان، إنما لبنان الواحد الموحّد، المسيحي المسلم معاً، هو لبنان الحقيقي، هو النموذج الفريد الفذّ الذي علينا ان نحافظ عليه بالمهج والأرواح.
لبنان هو للبنانيين وللبنانيين فقط، لا سيادة على ارض لبنان إلاّ للبنان، والفلسطينيون فيه هم ضيوفه وعليهم مراعاة شروط الضيافة واحترام قوانين البلد وسلطاته، وتحاشي كل تدخل في شؤونه الداخلية أو كل ما يمسّ سلامته وأمنه واستقراره والعمل على مساعدته على النهوض من كبوته.
فلبنان قدّم الكثير لتغطية فلسطين منذ عام 1948 حتى اليوم على كل صعيد وبخاصة في المحافل الدولية. وقد كان ولا يزال المنطلق الأول والمنبر لكل تحرك سياسي وإعلامي لتعريف العالم بالقضية المقدسة، لأنها قضية عدل وحق، لأنها قضية شعب شقيق، ولأنّ الدفاع عنها إنما هو دفاع عن لبنان بالذات نظراً الى مطامع إسرائيل المعروفة في جنوبه. ولا ننسى انه قبل الأحداث المؤلمة في ربوعه، حضر رئيس جمهوريته شخصياً إلى الأمم المتحدة باسم الدول العربية جمعاء للدفاع عن القضية الفلسطينية، ثم قام وزير خارجيته بجولة شاملة على دول القارة الاميركية من اجل الهدف نفسه. أفليس من الخزي والعار أن يحمل الفلسطينيون بندقية في وجه اللبناني، واللبناني بندقية في وجه الفلسطيني؟
وبقلب تغمره المحبة ويعمر بالإيمان، أوجّه بواسطة السفير والأخ العزيز فؤاد نداءات ثلاثة:
– الأول إلى أخواني الفلسطينيين: أن لا يستخدموا سلاحهم ويدخّروه لمواجهة العدو المشترك واستعادة أرضهم السليبة، وان يستقطبوا كل اللبنانيين مسيحيين ومسلمين من اجل قضيتهم. فالخلافات والنزاعات الفلسطينية اللبنانية والعربية لا تستفيد منها إلاّ إسرائيل. وان يكونوا أوفياء للبلد الذي فتح لهم صدره وقلبه، ووضع نفسه بتصرفهم، وقدّم لهم لدرجة إن سكت هو تكلمت الحجارة. فوطنهم هو فلسطين وليس سواه. ولو خيّروا بين العالم بأسره وفلسطين لاختاروا العودة إلى فلسطين، وأنهم لإليها بقوة الله عائدون.
– والنداء الثاني أوجّهه إلى أخواني اللبنانيين: بأن لا يقعوا ضحية لمؤامرة تقسيم لبنان، لأنه إذا لا سمح الله ونجحت المؤامرة فلبنان المسيحي البحت سيكون إسرائيل ثانية في المنطقة وهذا ما لا يرضاه أيّ مخلص.
وعليهم أن يذكروا دوماً مصيرهم، إنما هو مرتبط بمصير إخوانهم وأشقائهم في البلدان العربية، يفرحون لفرحهم ويحزنون لحزنهم. وأن يلتفّوا جميعاً على اختلاف اتجاهاتهم وميولهم ومشاربهم حول الرجل الكبير رئيس لبنان الياس سركيس الحاكم القدير والربّان الحكيم لمؤازرته في مهمته الصعبة لإنزال لبناننا المصلوب عن خشبته.
– أما النداء الثالث فأوجّهه إلى الدول العربية العزيزة قائلاً: كفاها تفرقة وانقساماً وتشتّتاً. إننا نعيش اياماً قصيرة وعلى مدى اتحادنا وتضامننا وتكاتفنا يتوقف مستقبلنا القريب والبعيد. والعمل الفلسطيني والقضية الفلسطينية يجب الا يكونا مسؤولية دولة واحدة أو حكومة بل مسؤولية عربية شاملة تتحمل فيها كل دولة نصيبها من هذه المسؤولية لنصل إلى الهدف المنشود وهو عودة الفلسطينيين إلى أرضهم المغتصبة.
وختاماً أحمّلك يا أخي ويا ولدي فؤاد، تحية خاصة إلى الرئيس النبيل الياس سركيس، وغبطة ومعانقة أخوية حارة إلى كل لبناني مهما كانت طائفته، معانقة مشفوعة بأخلص ما يحمل فؤادك وفؤادي من تمنيات من الأعماق لعودة الوئام والاتحاد والوفاق إلى ربوع بلد الأرز ليبقى كما نريده وكما شاءه الله أن يكون معقل الفكر والحضارة وبلد الثقافة والإشعاع وموطن الحرية والطمأنينة والسلام”.
إيلاريون كبوجي
النهار
الوسوم :بقلم إيلاريون كبوجي كأنها اليوم