تقاطعت قراءتي لمقولة ألبيرت أينشتيان:يجدر على كل إنسان أن يبحث عن تاريخ كينونته، وليس عما يجب أن يكون. وقراءة الكتاب الجديد للأباتي أنطوان راجح عن الرهبانية الأنطونيّة المارونيّة في القرن العشرين، أبرز الأحداث والمحطات التاريخية 1900-2000، يضع الرهبان الأنطونيين وأصدقاء الرهبانية على طريق البحث عن تاريخ كينونتها، ورسالتها وشهادتها، فيزداد حبهم لها، ونحن في عقد ونيف من الالفية الثالثة.
وكأنّ هذا الكتاب ليس تاريخيًّا وحسب، بل محطات تأملية ووقفات رهبانية، امام التحديات. يسمح المؤلف للقارئ الدخول إلى حصن الرهبانية، والتجوال بين الرهبان، ويستمع إليهم، ويرى رؤيتهم ولو بعد حين، فيحشر الراهب المعاصر على الحفاظ على الصفاء والقيم المتوارثة، من دون التغاضي عن السلبيات، ولا إعتبارها من جوهر الحياة الرهبانية كما تعرّف الكنيسة عن نفسها في المجمع الفاتيكاني الثاني أنها خاطئة ومقدسة، خاطئة لأنها تتألف من الخاطئين، ومقدسة لأنها تحمل الرسالة السماوية.
إن كان اختصار حياة فرد هو عمل شاق ومضنٍ، فكيف إذا اختصر المؤلف تاريخ الرهبانية الأنطونيّة المارونيّة خلال قرن من الزمن بكتاب؟
كل فصل يبدأ بإنتخاب الرئيس العام، موجز سيرة حياته، أبرز الإنجازات في عهده وتوزيع الوظائف الرهبانية، والرسائل، والعلاقة الرهبانية مع الكرسي الرسولي، والمحطات البارزة الإيجابية منها والسلبية، فلا تُخفى عن القارئ المماحكات والإضطرابات، مع ظهور العناية الإلهية التي تنهض بالرهبانية من بين الأنقاض في مسيرة شهادة وخدمة وتضحية في سبيل أبناء الملكوت. أضف إلى ذلك مراحل تطوير القوانين وتنشئة الرهبان العلمية والثقافية واللاهوتية، محافظًا على التسلسل التاريخي لكل تلك المراحل، بحيث يشعرك أنك في رحلة حياة، مهما تزايدت الإضطرابات الداخلية او الخارجية، مبرهنًا أن سيد التاريخ ومسيّره، وحده سيد الكون وخالقه.
الأباتي راجح لا يدّعي التأريخ، وهو المعروف ببحثه القانوني وصاحب الفتاوى الدبلوماسية، هو القاضي المنصف الحكيم، قلبه نابض بحب الله والانسان، مثابر بأعماله كالمتنسك، متواضع بكبره، ميزته صفاء النظرة، يقول عن نفسه: وإن لم أكن من أصحاب الإختصاص في التدوينات التاريخية، أسدّ بعضًا من حاجات رهنيّتنا التي تؤثر الكشف عن تاريخها بكل صفحاته…، فيكون الأباتي بذلك المعلم الذي يجذب الكل لقراءة هذا الكتاب التاريخي، وإن لم يكن ممَن يحبون التاريخ.
ناقلاً عما قاله الأب مارون حايك في تقديم الكتاب: “إنّ كل تاريخ يبحث عن الماضي، ويرمي إلى دراسته وتقويمه وفهمه، في ضوء العلم الحديث والمعاصر، لهو متواصل مع الحاضر ومرتبط بصيرورة الواقع، نحو المستقبل…” أمام عظمة التاريخ يشعر القادة، أنهم صغار، على الرغم من كل إنجازاتهم، لمعرفتهم أن الحياة مسيرة تراكم على جميع المستويات.
إن كنت من المنجذبين إلى شخصيته ولغته وفلسفته وشطحاته، أسمح لنفسي بأن أقول بكتابته للتاريخ، إنه يصنع لنا تاريخًا يحتذى به للقرن الآتي من الزمن.
بقلم الأب بشاره إيليّا