يلتقط جورج يرق في “حارس الموتى” أدق التفاصيل والتعابير الموصلة إلى الأحاسيس والمشاعر من دون فائض كلمات ولا مرادفات. يشبه أحد الأطباء المهرة الذين عرفهم بطله في غرفة عمليات جراحية في أتون الحرب الأهلية. يذهب إلى الهدف من دون تردد، لأن التردد يضر بالرواية كما بالجراحة.
مهارته في بث الحياة في اشخاص الرواية مدهشة، تعوّض الدقة اللغوية المكثفة أو الصرامة التي أزعجتني في البداية وقلت أين الطراوة؟ سرعان ما تنجرف معها، وسرعان ما يأخذك حارس موتاها الذي يبدو ضعيفا حائرا ومضعضعاً الى عالمه بثقة تجعلك في نهاية الرواية تسأل هل حقاً هو هذا الضعيف والمتردد والمتمسكن وغير الواثق كما بدا في بدايتها وكما يريد أن يقنعنا؟
بطل الرواية متقد الذهن واشبه بجهاز الكتروني تُدخل اليه المعلومات ليعطيك الأوجه العديدة للمعضلة او المواقف التي يواجهها، فيروح يعدد احتمالات ما قد تتسبب به ويستدعي نهاية لكل استجابة قد يقوم بها؛ قبل ان يقرر أي سلوك يتبناه.
بطل الرواية هذا يغرقك في خوفه وتوجساته ناقلاً إياك من حي الى حي، كما من عصفور الى آخر، ومن شخص الى شخص، ومن مشهد الى مشهد، بحيث تشعر انك هناك مع شخوصه تغمرك أحاسيسهم وتشملك مشاعرهم فتشتمّ معهم الروائح وتستمع الى الاصوات وتشاهد الالوان، الداكن منها والفاتح، الأزرق المشرق واللون الذي تغطيه الغيوم، ولون الدم وكثافته، كما رقة فضة القمر، رفيق العشاق الذي لا يعرفه سوى ساكن القرية وعارف فضاءاتها. يكشف لنا عن كتابة فيها رهافة وايجاز ورقة والادق بالفرنسية: sobriete, subtilite et raffinement كأنها ليست فقط الرواية الثانية للمؤلف.
عندما امسكت بها لم أصبر على تركها خلال الوقت المتاح للقراءة في الاربع وعشرين ساعة. تنجح الرواية في إضفاء الكثير من العذوبة والانسانية على موضوعي الحرب والموت عبر تعرية القسوة وفضحها وتركها لتدين نفسها بنفسها. تحتَ غشاء البساطة التي تكاد تقترب من السذاجة، يبدو البطل فتياً جداً ومسالماً وبسيطاً ولا يبحث إلا عن “السترة” كما يقال، لكنه يتكشف مع الصفحات عن ناقد اجتماعي لاذع يفضح بذاءة الحرب وفحشها، ليس عبر توصيفها بكلمات مدبجة ومفخمة، بل عبر تصوير فوتوغرافي دقيق وحوارات وأفعال واشارات او حركات تترك لك ان تستنتج ما ترغب به.
يكشف بدقة طبقات العلاقات وما تخفيه من مستويات من المشاعر التي فيها ود وتعاطف وأمانة كما فيها حسد وطمع وغيرة ودناءة. وهذا ينطبق على جميع المستويات والمؤسسات، او لنقل تجمعات البشر، من القرية الى المدينة، ومن الافراد في دائرة العلاقات الضيقة الى الاحزاب والميليشيات والجمعيات والمؤسسة الدينية والاستشفائية. انهم البشر الذين يتحولون في الحروب بشكل فاضح الى مجتمع أسماك، يأكل كبيرها صغيرها، وأقواها أضعفها. حرب مستعرة من الأعلى وصولاً الى الكائنات الأصغر. انهم البشر في جميع أحوالهم، في ضعفهم وقوتهم، في انسانيتهم وفي توحشهم، ينكشفون أمامنا عبر عين تتمتع برهافة حس انساني عميق تلتقط عذابات البشر، لكنها قادرة، ربما لذلك، على التقاط غلاظاتهم وانتقادها في الوقت نفسه. جورج يرق، على شاكلة اسمه، يَرقّ لأحوال البشر وما يحيطهم ويصفهم في العمق بحب، ليس فقط لأنهم يستحقون ذلك، بل لأنه كذلك.
اما مشهد الملامسة الجسدية خلال القصف، فمن اجمل المقاطع الايروتيكية الحسية التي قرأت، لقدرته على نقل التفاصيل اللازمة لاثارة القارئ، فهو يصف أحاسيس تكاد تجعله يتهيأ هو نفسه لما سوف يلي او توحي له به، وهذا افضل، لان الامر يعتمد على القارئ وتجاربه الحسية وخياله كي يعيش المتخيل الباقي على هواه. نعلم كم الخيال اقوى من الكلمات. الاثارة هنا اقوى من نقل الفعل الجنسي العاري الذي ليس بالمستطاع عادة وصفه بكلمات مهما كانت قدرتها. لم اقرأ حتى الآن نصاً نجح بذلك حقا، حتى نصوص أناييس نين. بقي في رأسي كحبة كرز تزين كأس الكوكتيل، التي تجمع الحلو بالمرّ لتترك المذاق اللذيذ في الفم، ما عبّر عنه البطل صائد الطيور الفخور بمهارته في قنصها اثناء طيرانها، واستشهاده بشوقي أبي شقرا الذي اعرب عن استنكاره صيد الطيور وتناولها: “حدا بياكل موسيقى؟”.
منى فياض
النهار