طبع البابا #يوحنا بولس الثاني#الكنيسة الكاثوليكية بطابع فريد طيلة 25 سنة من حبريّته. فقاد هذا القديس الكنيسة من قرن إلى قرن وأعاد الإعتبار للشخص البشري لأيّ دين أو جماعة انتمى. إعتبر أنّه من الضروري والملحّ أن يعاد صياغة النسيج المسيحي للمجتمع البشري، لأنّ له دور في إبراز هذه الكرامة البشريّة. فالخطاب المسيحي يحمل رسالة المسيح التي تدعو إلى إحترام الشخص البشري. (العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 36). دعا المسيحيين إلى عدم الخوف من أيّ شيء. فكان شعاره في بداية حبريّته : “لا تخافوا”. فطلب تشريع الأبواب للمسيح وفتح كلّ الحدود بين الدول والأنظمة الإقتصاديّة والسياسيّة. أدرك هذا الرّجل، الذي جال العالم مشجّعاً ومقوّياً الكنائس وداعماً للشعوب في نضالها من أجل الإنسان، قيمة الشخص البشري وكرامته وأكّد ترابط المسيحيّة بحقوق الإنسان وبالحريّات الدينيّة. أدرك هذا الناطق بإسم “كنيسة الصمت” في عهد الشيوعيّة، قيمة هذا الشخص ودوره، وارتباط كرامته، لا بنظرة الناس إليه، بل بخالقه. كان هذا الرّاعي لمحبّة الله للعالم، دافعاً للثقة بالإنسان وبالله وعلامة رجاء عليه إستند المعذّبون. لم يكن البابا أكاديميّاً بالمعنى الحصري بل راعياً. وصلت كلمته إلى قلوب الكثيرين مع إختلاف ثقافاتهم. لم يسعى لجذب الناس إليه أو لتنصيب نفسه مدبّراً للقوانين والشرائع الأدبيّة. كان همّه الإجابة على مأساة الناس التي لم يرد أن تصبح سبباً للقضاء على الإنسان. اعتبر البابا يوحنا بولس الثاني أنّ الإنسان هو مقياس الأشياء والأفعال وأنّ الله هو مقياس الإنسان وعلى الإنسان أن يعود إلى النبع. فيسوع المتجسّد أراد أن يصون الإنسان ويؤنسن العالم (خطاب البابا أمام البولنديين في فرنسا، 31 أيّار 1980).
تأثر فكر البابا الإنساني بالأنتروبولوجيا البيبليّة. في رسالته “الإيمان والعقل” (عدد 60)، شدّد على قيمة الشخص البشري المخلوق على صورة الله وبيّن كرامته وسموّه على باقي الخلق وأظهر ما يتميّز به عقل الإنسان من قدرة سامية. ( فرح ورجاء 14 و 15). فسرّ الإنسان لا يستضيء حقّاً إلاّ في سرّ الكلمة المتجسدّ. لأنّ آدم الجديد، أي يسوع، عندما يكشف لنا سرّ الآب ومحبّته، إنّما يظهر للإنسان ملء ذاته ويكشف له دعوته السامية (العقل والإيمان 60، فادي الإنسان 8، فرح ورجاء 22). كان دائماً يقول “لا تنبهروا بالشعارات الطنّانة وبالآراء السطحيّة. إقرأوا الواقع وتعلمّوه وأحبّوه وغيّروه وأعطوه بعداً جديداً”.
الإنسان هو محور الخطاب الكنسي
إختبر البابا يوحناّ بولس الثاني نظامين توتاليتارين : النازي والشيوعي الذين حاولا إخراج الله من حياة الإنسان للقضاء على كرامته. فاعتبر أنّه يجب أن يكون للإنسان منزلة مهمّة في خطاب الكنيسة، لأنّ الله فتح أبواب الفداء للإنسان، هذا الأخير، يملك كرامته لأنّ الفادي هو محور الكون والتاريخ (رسالة فادي الإنسان 1). صحيح أنّ مجتمعاتنا المعاصرة رفضت هذين النظامين لكنّها أنتجت بالمقابل، بنظر البابا، مخاطر أخرى تضرّ بالحريّة الشخصيّة غير الواعية. لذا لا تفتأ الكنيسة تسأل جميع الناس بإسم الله والإنسان أن يحافظوا على الحياة وأن يفكّروا بإخوانهم المتضوّرين جوعاً والعائشين في الشقاء وأن يحترموا كرامة وحريّة الإنسان. (فادي الإنسان 16).امن هذا المنطلق، لا يمكنها إلاّ أن تتكلّم لتعلن الحقّ في وقته وفي غير وقته (2تيمو 4، 2).
يقول البابا، في رسالته فادي الإنسان 8، أنّ المسيح إتّخذ الطبيعة البشريّة دون أن تذوب فيه، فرفعها بذات الفعل إلى مقام عظيم. إنّ إبن الله، بتجسّده انضمّ نوعاً ما إلى كلّ الناس. (فرح ورجاء 91 وإنجيل الحياة 2). إنّ كرامة الإنسان هي المقياس الأساسي لصدقيّة النموّ البشري. (الإهتمام بالشأن الإجتماعي، 33). فمن الحقائق التي تنبثق من كرامة الإنسان هو “العقل”. والكنيسة تقدّر جهود العقل للوصول إلى الأهداف التي تضفي على الوجود الشخصي مزيداً من الكرامة. (رسالة الإيمان والعقل، 5. راجع 20، 40، 45، 82).
العقل والإيمان يؤمّنان الإلتزام الدائم للمسيحي عبر الأجيال للدفاع عن الشخص خاصّة الضعيف والمهمّش والمعوّق. لذا إعتبر البابا أنّ كرامة الشخص البشري مهدّدة، وبخاصّة في مراحل حسّاسة من الوجود : الولادة والموت. فواجه بقوّة كلّ المحاولات التي كانت تهدف إلى التقليص من قيمة الإنسان، من خلال قتله أو تقصير عمره لأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة مهما كانت سامية. واجه البابا محاولات عدّة للإستيلاء على الحق بتحديد عتبة إنسانيّة الشخص. إنّ كرامة الإنسان هي مرتكز لكلّ الحوارات مع الآخرين. فبالرغم من تراجع الحقائق التي عرضتها الأنظمة الفكريّة عبر الأجيال، أصبح من الضروري إيجاد إتّفاق شامل حول مبدأ موحّد لكلّ الإنسانيّة حتّى لو أنّ التعدّديّة الفكريّة والثقافيّة والأخلاقيّة تفرض نفسها بالقوّة. هذه الكرامة هي الجامعة بين الشعوب وفارضة إحترامها. لقد إستشفّ البابا خطر ربط نوعيّة الحياة بكرامة الإنسان. لذا شدّد على ضرورة فصل الكرامة عن المفهوم الكمّي للأشياء، وربطها بنوعيّة تفوق كلّ مقياس حسّي قابل للتغيير بين لحظة وأخرى. أراد البابا ربط كرامة الإنسان بسرّ التجسّد مفتاح طبيعة الإنسان ومصيره.
من هو الشخص البشري
رأى البابا أنّ الشخص البشري، المخلوق على صورة الله والمرتبط مصيره بشكل وثيق بالمسيح، (مؤتمر “الكنيسة وحقوق الإنسان، 1988، عدد 4) هو أساس وهدف الحياة الإجتماعيّة التي يُحافَظ عليها بالعدالة وبالقانون. فحدّد نظرته لحقوق الإنسان إنطلاقاً من مفهومه للشخص وليس إنطلاقاً من مفهوم الدولة أو أيّة سلطة أخرى. لذا كان من المتشدّدين لحماية هذه الحقوق وانتشارها، لأنّها حقوق شاملة. في هذا البعد المتسامي للشخص يكمن مصدر كرامته وحقوقه المشروعة. فكلّ مرّة تعلن الكنيسة أنّ كرامة الشخص البشري لها أساسها في كونه مخلوقاً على صورة الله فإنّها تخدم قضيّة حقوق الإنسان. إنّ الإعتراف بالأساس الأنتروبولوجي والأخلاقي لحقوق الإنسان ضمانة ضدّ كلّ تعدّ عليه.
شدّد البابا خلال حبريّته على بعض الحقوق التي اعتبرها غير محترمة بالقانون وفي الممارسة اليوميّة. فتكلّم عن أساس حقوق الإنسان ألا وهو الحق بالحياة. فالحياة البشريّة هي مقدّسة منذ ولادتها وحتى نهايتها الطبيعيّة. فثقافة الحياة تضمن للجنين حق المجيء إلى العالم وتحمي المولودين الجدد وخاصّة البنات منهم من خطر قتلهم. كما وتؤمّن للمعوّقين إمكانيّة تطوّر إمكانيّاتهم الموجودة وتؤمّن العلاجات الضروريّة ذات النوعيّة للمرضى ولكبار السنّ. كما شدّد البابا على أنّ الجنين هو كائن بشري يجب إحترامه كشخص بشريّ. فهو صاحب حقوق ولا يمكن تجاهلها أو المسّ بها. واعتبر أنّ العائلة هي المكان السليم لأنسنة الشخص والمجتمع. فمن خلالها يظهر مستقبل العالم والكنيسة (وظائف العائلة 40 و العلمانيّون المؤمنون بالمسيح 46).
خلال دورة من دورات “الأسابيع الإجتماعيّة الفرنسيّة” في تشرين الثاني 2001 بعنوان ” البيولوجيا، الطبّ والمجتمع : ماذا يفعل الإنسان” شدّد البابا على صعوبة الأسئلة التي تطرحها خلقيّة الحياة. وربط بين أهميّة إعلام الناس بكلّ الإكتشافات العلميّة في مجال الطبّ وضرورة تنشئة ضمائرهم ليأخذوا القرارات المناسبة بتمييز وبحكمة مستندين إلى القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة الأساسيّة التي تضع الإنسان في موقع مهمّ في الخليقة لما له من كرامة وإحترام.
ركّز البابا على أهميّة الأبحاث في مجال الطب بهدف الوقاية أو الشفاء أو تخفيف الألم. لم يبتعد عمّا قاله المجمع الفاتيكاني الثاني “إنّ البحث المنهجي في كلّ فرع من فروع المعرفة، لا يكون منافياً للإيمان، إن قاده الإنسان بطريقة علميّة صرفة مراعياً قواعد الأخلاق : فالحقائق الدنيويّة والحقائق الإيمانيّة لها مصدر واحد هو الله” (فرح ورجاء 36). حرص البابا على أن يعمل الأطبّاء والعلماء على تنقية ضمائرهم وعلى التمييز الواعي كي يروا بحكمة رهانات ونتائج التطوّر. فحضّهم على اليقظة كي لا تصبح كرامة الشخص البشري، وهي كيانيّة وليست ظرفيّة، مرتهنة للمجتمع وللأشخاص المقرّبين من المريض. فالشخص هو قيمة في ذاته بيسوع المسيح الذي بيّن للإنسان ماهيّته وعظم دعوته. (فرح ورجاء 22). حذّر البابا من مغبّة تخدير الضمائر تهميشاً للضعيف وأذيّة للمعوّق وللمريض ولكبير السن، …. لذا شجّع العلماء على العمل الدؤوب من أجل إكتشاف علاجات للأمراض الوراثيّة وإيجاد هيكليّات منظّمة لإستقبال الأشخاص المعوّقين.
قيمة ومعنى كلّ حياة
كي لا يتفرّد اللاهوت بمسألة الإنسان، لأنّ الجميع معني بحقيقة الإنسان وكرامته، وكي لا يعمد العلم إلى تفريغ الإنسان من أبعاده الأخرى فيصبح التصرّف الطبّي والعلمي مبنيّاً على عوامل محض علميّة وعلى رغبات وطموحات بعض النافذين وضغوطات أسواق المال والمنافع الخاصّة، إعتبر البابا أن بناء المجتمعات تفرض أن يكون لكلّ إنسان مكانته ودوره بفعل إنتمائه إلى الجنس البشري. وهذه القيمة الذاتيّة تظهر أكثر في أوقات المرض والألم والموت. لذا نظر البابا إلى الإنسان كشخص فاعل. فهو ليس كياناً مكتملاً بل في صيرورة ومسيرته محورها المسيح (فادي الإنسان، 10). وهذه الديناميكيّة تسير نحو المسيح ومع المسيح. شدّد البابا في “تألّق الحقيقة” على الرباط بين الحريّة والحقيقة والذي فقدناه في عصرنا الحالي (64 و 84). فالحريّة هي في خدمة خير الشخص البشري وتتحقّق بالمحبّة وبإعطاء الذات (97). وفي هذه المسيرة يصبح الإنسان أكثر إنسانيّة ويكبر بالمسيح الخير الأسمى (6). هذا النمو، الذي يُترجم ليس فقط على المستوى الفردي بل أيضاً على مستوى المجتمع البشري، هو فرصة لنضوج الشخص كي يصبح أكثر مسؤوليّة وأكثر إنفتاحاً على الآخر (فادي الإنسان 15) (راجع الإيمان والعقل، 32). عندها يتحقّق كمال الإنسان في العلاقة الحيّة مع الآخر والعطاء الداخلي والأمانة له (الإهتمام بالشأن الإجتماعي 38). هذه الحريّة برباطها مع الحقيقة تحتاج إلى تضامن بين البشر وابتعاد عن الفرديّة وتعزيز الإلتزام. وهذا يبدأ بالعائلة التي هي شراكة أشخاص يعملون من أجل العدالة الإجتماعيّة والمحبّة ومن أجل إنخراط الفقراء بالمجتمع (السنة المئة 44، 45،49، راجع فادي الإنسان 15 والإهتمام بالشأن الإجتماعي 38 و 39).
ختاماً، الكرامة البشريّة كيانيّة فهي لا تنقسم ولا تضعف ولا تخسر ومنها تنبثق الحقوق الأولى. إنّها من متطلبات الحياة، وعلى الإنسان أن يكون على مستوى هذه الكرامة.
المصدر: النهار
الأستاذ الجامعي الخوري شربل شلالا*