تحقيق استيل صهيون
انها المفتاح الى الشمال اللبناني، البلدة الساحلية المعروفة بشاطئها النظيف، القرية القديمة العهد التي مرت عليها شعوب عديدة وتركت آثارا فيها ما أعطاها طابعا تراثيا، انها كفرعبيدا التي تضم آبارا رومانية قديمة كانت تستعمل لتخزين المياه وجمعها للري ونواويس محفورة في الصخور، اضافة الى مغاور قديمة العهد. وها هي اليوم تخضع لتنقيب جديد عن آثار كشفت فيها صدفة تعود الى 5000 سنة الى الوراء، ويرجح انها كانت مركزا اداريا اساسيا مرتبطا بمدينة جبيل. فكيف تم اكتشافها؟ وما الاهمية التي تحملها هذه الآثار؟
بدأت القصة عام 2004 مع طالب لبناني من الجامعة الأميركية – بيروت عندما كان في رحلة على دراجته النارية ووجد على تلة أن هناك جدرانا ظاهرة، ما اوضح له انه موقع اثري ويتعرض الى الجرف. ابلغ بعدها احد الاساتذة في الجامعة والدكتور هرمن غنز وهو المشرف اليوم على اعمال التنقيب. وبعد كشفهما على المكان أكدا انه موقع مثير للاهتمام، فاستحصلوا على إذن من المديرية العامة للآثار بتوقيف عمليات الجرف، ليبدأ بعدها مشروع التنقيب عن الآثار، ذلك بحسب غنز.
غنز
وأكد غنز في إحدى زياراته للموقع، ان ما اكتشف يعود الى فترة يطلق عليها علماء الآثار، “بداية العصر البرونزي”، إذ استعملت فيها المعادن للمرة الاولى بهدف صناعة الأسلحة والمعدات. وبرزت مواقع مهمة في لبنان في ذلك العصر كبيبلوس وتل عرقا شمالي طرابلس وصيدا وغيرها.
ويتوقع غنز والعلماء ان يساعدهم هذا الموقع على اكتشاف احدى أقدم المدن في هذه المنطقة، خصوصا وان بعض المعلومات لا تزال مجهولة حتى اليوم، وبالتالي فمن الممكن ان تظهر التنظيم السابق لهذه المدينة وعدد سكانها والدور التي كانت تؤديه التجارة فيها واسئلة اخرى.
وبما ان غنز مختص بـ”العصر البرونزي المبكر”، استلم اعمال التنقيب بنفسه، مفسرا انه في تلك الحقبة نشأت مستوطنات أكبر، سميت بـ”المدن”، ما تطلب تنظيما أكثر صعوبة من الذي كان سائدا في العصر الحجري. ومع هذه المستوطنات، رجح ظهور تراتبية اجتماعية وبروز الملوك وربما تزايد أهمية التجارة الدولية، خصوصا وأن استخدام المعادن كاد يستعمل بشكل شائع، لافتا الى أنها لم تتواجد في لبنان، فكان على السكان استردادها من الدول المجاورة.
وكانت في تلك الفترة قد برزت عدة حضارات في مصر وبلاد ما بين النهرين وكلاهما، لديهما أعداد كبيرة من السكان وأراض خصبة وبامكانهما النمو بشكل كبير، لكنهما يفتقران إلى المواد الخام والموارد الطبيعية ومن بينها الخشب بشكل رئيسي. فاتجهت إلى لبنان للحصول عليها وبالتالي نشأت حوالي سنة 3000 ق.م علاقات تجارية مهمة بين مصر وبيبلوس أو بشكل عام بين مصر والمنطقة بأسرها.
ورجح في حديثه، ان هذا الاخير كان ينضم إلى منطقة بيبلوس كونه لا يبعد عنها إلا 12 كلم شمالي المدينة، ولصغره فيستبعد ان يكون مملكة لوحدها. ويعتقد غنز انه كان بمثابة مركز اداري تحت اشراف بيبلوس، ما يدل على أن التنظيم السياسي آنذاك كان متطورا إلى حد ما، مشبها بيبلوس بعاصمة المملكة التي تنتشر حواليها، مراكز صغيرة يقطنها حاكمون نصبوا فيها، يجمعون من هذه المراكز الأخشاب من الجبال والمنتجات الزراعية المشهورة والنامية كالقمح والزيتون والنبيذ وغيرها ثم يتم إرسالها الى بيبلوس.
في عامي 2004 و 2005، استطاعت اللجنة ان تدرس الاقسام التي سبق وجرفت قبل اكتشاف الموقع، وتمكنت من رؤية مختلف الطبقات بوضوح وتأكدت أن المنطقة كانت محتلة لفترة قليلة من الزمن تتراوح بين 1000 و 1500 سنة، بحسب غنز. وانطلاقا من سنة 2007، بدأ بالتنقيب عن الآثار التي أعيد ردمها عام 2011 في أماكن أعمق لحمايتها، حريصين فقط على ترك القسم الأعلى من الجدران ظاهرا كي يتمكن الزوار من رؤيتها.
ومن خلال الدراسة، لاحظ العلماء وجود مستويين، المستوى العلوي وهو يمثل الفترة بين 2800 – 2600 ق.م والمستوى الأدنى بين 2600 – 2500 ق.م.، متوقفين في بحثهم على المنازل والمساكن العلوية المكتشفة. بيد أن ما يثير اهتمامهم فعلا هو وجود تصميم أكيد حيث وجدت مبان قريبة من بعضها البعض، تفصلها شوارع ضيقة ما يدل على انه تصميم لمدينة وليس لقرية صغيرة.
وعبر عن اعجابه بهندسة الابنية التي كانت مستخدمة، رابطا تصميمها الى تصميم بيبلوس، لذلك يعتقد غنز ان الموقع الاثري في البلدة كان مركزا اداريا مهما، مشيرا الى وجود بعض المباني الضخمة التي قد يرجح ان تكون احداها عبارة عن قصر للحاكم، وقد اختار هذا الأخير المكان لأنه يشرف على البحر ويلفحه النسيم العليل خلال الصيف.
وتطرق غنز الى بعض الدلائل التي تؤكد وجود مبان رسمية في المكان، فقد كان يخزن فيه كميات من المنتوجات الغذائية التي يرجح انها كانت تجمع من المناطق كي ترسل الى بيبلوس.
واشار غنز الى حصول اللجنة على بعض الأختام الأسطوانية الشكل والتي لا يتعدى حجمها حجم البطارية، منحوتة بواسطة عدة مواد كحجر الجير والعاج، مشيرا الى ان “هذه الاختام نقلت اليوم الى الجامعة الأميركية في بيروت وسيتم عرضها في المتحف الوطني أو إذا تم بناء متحف محلي هنا، فمن دواعي سروري أن تعرض هنا.
وعن اهمية هذه الاختام، اعلن انه تم في بيبلوس العثور على عشرين منهم خلال أكثر من خمسين عاما من التنقيب، في حين وجدت في الموقع ستة أختام حتى اليوم، معتبرا أن هذه الأختام كانت بمثابة علامة يستخدمها المسؤولين الكبار لختم جرار زيت الزيتون أو زجاجات النبيذ قبل تصديرها الى السلطات المصرية.
ويضيف: “لم تكن الاختام بمتناول الجميع خلال العصر البرونزي بل كانت محصورة بيد المسؤولين الكبار، والواقع المتمثل بوجود ستة أختام في المبنى عينه ليس محض صدفة، بل يشير إلى أن المسؤولين كانوا يقيمون ويعملون في هذا المبنى. أما المعلومة الأهم فهي أن أحد الأختام لم ينته العمل به، فقد بدأوا بنحت أسد لكنهم لسبب ما لم يكملوه ورموه، علما أن الأختام الخمسة المتبقية قد انهي العمل بها، ما يعني أن شيئا مميزا كان يحدث هنا لأن نحت الأختام لا يحصل في القرى الصغيرة بل في الأماكن المهمة حيث يحتاجها المسؤولون”.
شليطا
من جهته، اعتبر رئيس لجنة التراث والسياحة الدينية في أبرشية البترون الدكتور جوزيف شليطا، “ان هذه الابحاث بمثابة دراسات اركيولوجية اكاديمية وليست اعمال تنقيب رسمية”، مشيرا الى “ان تمويله يأتي من السفارة الألمانية، لذلك فان اعمال البحث تأخذ وقتا طويلا”.
واعلن شليطا “ان هذه اللجنة تعمل خلال شهر حزيران فقط، لذلك لا احد يمكنه جزم تاريخ انتهاء الأعمال، موضحا ان الاثار المكتشفة تنقل فورا الى الجامعة الأميركية حيث يتم دراستها، لذلك لا وجود للآثار في الموقع اليوم”.
ولفت الى ان اللجنة وجدت مؤخرا عظاما وقطعا فخارية اثرية نقلت ليتم درسها في مختبر الجامعة الاميركية، كما وجدت حبوب قمح محجرة قامت اللجنة بزرعها في قطعتي أرض مختلفتين في القرية، لتثبيت مقولة ان هذه الحبوب هي زراعة محلية”.
واستبعد شليطا “تحول الأرض الى متحف محلي او ما شابه ذلك، فهي أرض خاصة مستملكة”.
واكد “ان ما اكتشف سوف يذكر في التاريخ والكتب التي ستتكلم عن تلك الحقبة من الزمن، خصوصا وانها تساعد المؤرخين على اكتشاف بعض المعلومات التي كانت مجهولة.
وطنية