في عزلة “دير قرنطل” في اريحا، رهبان نسّاك ارثوذكس، تناقلوا التقليد على مر القرون… حجاج بالمئات يقصدونهم ليصلّوا في المكان الذي يؤمن المسيحيون بأن السيّد المسيح صام فيه وجرّبه الشيطان. وفي الارجاء، تناثرت كهوف نساك رهبان، نحو 30 او 40 منها. الدير يحمل اسم جبله: “جبل قرنطل” (Quarantal)، او جبل التجربة، وايضا جبل الاربعين. الاربعون، تماما كما تعني “قرنطل” المشتقة من ” الكلمة اللاتينية “قوارانتانا”. الالباب تختلج للارض المترامية الاطراف تحت.
على ارتفاع 1200 قدم (360 مترا) فوق سطح البحر، يطل الجبل على مدينة اريحا، و”يغطي” وسع وادي الاردن، حتى البحر الميت وغيره. المنظر الرائع لم يفت بالتأكيد السيد المسيح يوم صعوده الى الجبل، قبل اكثر من الفي عام، “يسير به الروح الى البرية… فصام اربعين يوما واربعين ليلة، حتى جاع” (متى 4/1-2). ودنا منه ابليس ليجربه… 3 مرات. تلك التجارب يذكرها الرسول مرقس (1/12-13) باقتضاب في النص، بينما يستفيض بها كلّ من متى (4/1-11)، ولوقا (4/1-13)، بتفاصيل كثيرة عنها.
وكانت تجربة بالجوع، تحدي الله، والقوة، ونتيجتها انتصار ثلاثي ليسوع على الشيطان. وعلى مثاله، جاء آلاف النساك طوعا الى البرية عينها، الى الجبل اياه، في القرون الاولى للمسيحية، ليخوضوا في كهوفه معركة التجارب، للانتصار عليها. في تأريخ كهف المسيح، كانت القديسة هيلانة اول من حدده بأنه “موقع مقدس”، وذلك خلال حجها الى الاراضي المقدسة العام 326. وفكّرت في المحافظة عليه، باقامة تشييد قديم عليه. في القرن السادس، بنى البيزنطيون ديرا فوق الكهف. وعندما اجتاح الصليبيون المنطقة العام 1099، بنوا كنيستين في الموقع: الاولى في كهف في وسط الجبل، والاخرى على القمة. وقد سموا الموقع “جبل الاربعين” (Mons Quarantana). في القرن التاسع عشر (1874)، استملكت الكنيسة الارثوذكسية (الاورشليمية) الارض، حيث يقوم الدير الحالي. التأسيس تم في عهد الأرشمندريت أفراميوس العام 1892. وقد بُنِي الدير، وفقا للمعلومات، حول كنيسة جوفية تدل الى الصخرة التي كان المسيح يتكىء عليها خلال صومه. وقد جُدِّدَ الدير مرات عدة، على مرّ العقود.
15 دقيقة في السيارة من وادي قلط، قرب البحر الميت، يستغرق الوصول الى مشارف الجبل. قبل العام 1990، كان تسلّقه مشيا، يستغرق ما بين الساعة والنصف وساعتين، وبعزم كبير، عبر طريق وعرة، قاسية الانحدار، الوسيلة الوحيدة لبلوغ الدير المعلّق. اليوم، يسهّل “تلفريك” عصري المهمة، عبر رحلة جوية قصيرة لا تزيد عن 5 دقائق، وتمر فوق سهول زراعية. واقصى ما يبلغه ممر. ويبقى صعود 150 درجة، للوصول الى الدير.
ممرات صخرية ضيقة، بناء يغوص اكثر فاكثر في عمق الجبل، نحتًا في الصخر وبناء. شُرفات معلقة في الهواء، وغرف تنفتح على حياة صلاة وتقشف. الرهبان الارثوذكس اليونان يعيشون في الدير حياة بساطة، بتوازن دقيق بين عزلة وتأمل وانفتاح مدوزن على العالم الخارجي يوجبه وصول الزوار الى الدير، وفوداً وفوداً، كل يوم، مع تحديد مسبق لساعات الاستقبال. الرابعة بعد الظهر، يقفل الدير ابوابه كل يوم، من الاثنين الى الجمعة. ساعتئذ، يختلي الرهبان مجدداً في الصمت، ويلوذون في غرف تجاور كهف المسيح، وكهوف قديمة اخرى في الدير سكنها نساك بيزنطيون من قرون، وتشهد لتصميمهم على الاقتداء بالمسيح. في زمن غابر، في القرن الخامس، شغل آلاف منهم كهوف الجبل ووادي قلط القريب.
تقول الحكاية ان اعدادهم تناقصت في شكل كبير، على اثر الغزو الاسلامي للمنطقة في منتصف القرن السابع والحروب اللاحقة. وقد دمرت عشرات الاديرة هناك او هُجِرت، وقتل العديد من النساك. ومع ذلك، عاش التقليد، ولا يزال مستمرا في القرن الحادي والعشرين، مُطَعَمًّا قليلاً بوسائل حداثة ضرورية. ايا يكن، يبقّ طعم البرية، “برية اليهودية”، هو عينه. وعندما تدخلها مواكب الحجاج كل يوم، فلكي يتذوقوا شيئا من هوائها وارضها، كما فعل السيد المسيح في صومه. وقبله يوحنا المعمدان “ظهر” فيها، مناديا “اعدوا طريق الرب”، و”لباسه من وبر الابل وحول وسطه زنار من جلد، وكان طعامه الجراد والعسل البري” (متى 3/4). وفي الذاكرة النبي ايليا. هو ايضا عرفها ونام فيها وسار، و”كانت معه يد الرب”. والملائكة بدورهم وطأوها، على قول الكتاب، ليخدموا المسيح بعد انتصاره على التجربة. وفي الكهف، يبقى السر.
هالة حمصي / النهار